الثلاثاء، 29 سبتمبر 2015



إليكم يا خُدَّام الحجيج وحُرَّاس المشاعر  والحرمين



بيّض الله وجوهكم يوم القيامة على ما قدمتموه للحجاج , وجزاكم الله خيراً على كل لحظة قضيتموها في خدمة ضيوف الرحمن, وأسبل عليكم ألطافه , ووالى عليكم نعمه, وتولاكم في الدنيا والأخرى.

حقيقة أني ما مررتُ بجوار رجل أمن أثناء الحج أياً كانت رتبته, أو مرجعه الوظيفي إلا شعرتُ بفضلهم , ودعوتُ الله لهم , وبادرت بالسلام عليهم وتشجيعهم.

كم رأيتُ العرق يتصبب من جباههم, وكم رأيت الجهد بلغ منهم مبلغه, وكم نظرت إلى حاج يقصدهم ليرشدوه, ومن تائه ليعينوه, ومن عاجز ليحملوه.

كنتُ أغسل يدي من تناول الغداء بعرفة فإذا رجل بجانبي يقول لي: انظر ويشير برأسه إلى مكان مرتفع عن الخيام, فرفعتُ رأسي فإذا برجل من إحدى القطاعات العسكرية يراقب على ارتفاع أمتار قد تناولت الشمس من جسده ما تناولت, وهو على هذه الحالة لمدة ساعات, فدعوت الله له, وقلت للرجل الذي أشار لمكانه: لله دره ما أعظم أجره إن قصد الله والدار الآخرة.

توجه الحجيج إلى مزدلفة فلم يغب عن ذهني ذلك الطفل الذي فقد أهله فيها, ورجل الأمن واقف معه , ممسك بيده كأنه والده, يقلب ناظره يمنة ويسرة يبحث مع الطفل عن والديه, فقلت له: أهذا الطفل ضائع؟ فقال: نعم, فقلت: أعانكم الله, أعانكم الله, أعانكم الله.

تركته متأملاً حاله: من الصباح لم ينم, ثم تأتيه هذه الأمانة العظيمة ليحملها متى سيجد الطفل أهله بين هؤلاء البشر الذين هم مد النظر.

أعانكم الله, أعانكم الله , يا رجال أمننا , وحرس ضيوفنا, ورحمكم, وغفر لكم .

قصدتُ البيت الحرام يوم العيد فإذا بعض الحجيج متجمهرون عند أحد الأبواب يطلبون من الجند الذين هناك أن يسمحوا لهم بالمرور, فسمعت الجندي يقول لهم بعبارة هي غاية في اللطف: يا تاج راسي يا حاج الدخول مع الباب الآخر.

كم رأيت من رجل أمن قد أعياه التعب قد جلس على الأرض لانتهاء فترته لا يلوي على شيء إلا طلب السكينة والراحة قليلا ليعود مرة أخرى للعمل الشاق.

من منا سيصبر على الأقل ست ساعات في مكان واحد الشمس فوقه, والبشر عن يمينه وشماله وأمامه وخلفه, يوجه هذا, ويرشد هذا.

إنه حقيقة جهد عظيم, وعمل كبير, كان الله للجميع.

ولا ينقضي عجبي من أوباش قد ظهر بعض نتنهم ينتقصون الجهود المبذولة , ويهدرون الأعمال الجليلة, وينسون الطاقات الكبيرة التي قُدِّمت لضيوف الرحمن فتجدهم يجعلون التقصير هو الأصل, والخطأ هو الغالب, والنقص هو السائد, في خبث ظاهر, ولؤم واضح, كأنهم لم يروا خيراً قط, ويزداد العجب أن يكون بعضهم من أبناء جلدتنا وممن يتكلمون بألسنتنا!

وهم في الحقيقة يضخمون الأخطاء, ويظهرون القبيح, لا تجدهم يشكرون دولة التوحيد والسنة على جهودها المبذولة - وهي لا تنتظر شكرهم- ولا يدعون لها بالسداد والتوفيق, وما أن تعتب عليهم إلا اعتذروا بأن: النقد مطلوب!


 لا شك أن النقد الهادف مطلوب, وكذلك الإشادة بالجهود المبذولة مطلوب , والله أمر بالعدل.

فهل من العدل والنقد الهادف : إهدار عمل أكثر من آلاف الرجال من عسكريين وصحيين وأطباء وغيرهم ؟

والله محيط بالنيات, وعالم بالخفيات.

وعوداً على بدء شكر الرحمن لكم جهدكم المبذول يا أيها الرجال الكرام من جميع القطاعات على خدمتكم لحجاج البيت الحرام, ولا تلتفتوا لأولئك الأوغاش, الجاحدين للفضل , الناكرين للجميل, الغارقين في الحقد فهم قد ضاق بهم عملكم ونجاحكم.

وهم كما قال الأول:



إِن يَعْلَمُوا الْخَيْرَ يُخْفُوهُ وإِن عَلِمُوا * شَرّاً أَذَاعُوا وَإِنْ لَمْ يَعْلموا كَذَبُوا

فلا مكان لهم ولا اعتبار , فواصلوا بذْلكم, وارتقوا بعطائكم بارك الله لكم في أعمالكم وأعماركم, وأصلح نياتكم وذرياتكم, وبارك الله لخادم الحرمين الشريفين في عمره وعمله وأمده بالقوة على كل خير, وولي عهده, وولي ولي عهده, والقائمين على أعمال الحجيج  من جميع القطاعات.

حفظ الله على بلادنا إيمانها وأمنها وجميع بلاد المسلمين.



كتبه
د.  محمد بن فهد بن عبد العزيز الفريح
عضو هيئة التدريس بالمعهد العالي للقضاء
16 / 12 / 1436 هــ
twitter.com/dralfarih

الاثنين، 28 سبتمبر 2015


الشيخ الفاضل الكريم :محمد الفاضل السبيعي رحمه الله


سمعتُ باسمه رحمه الله حين كان قاضياً بالمجمعة , ورأيته أول مرة في حفل زواج ابنته  بسدير , فرأيتُ وقار العلم , وهيبة القضاء, مع جمال المُحيَّا , قد جَـمُلَ المشلح  على الشيخ رحمه الله, وقد كان رحمه الله على سنن علمائنا الأوائل من أئمة الدعوة في لبسه حتى في الذهاب لصلاة الجماعة.

ذهبتْ مدةٌ من الزمان ولقيتُ أحد الأصحاب فقال: إننا ذاهبون للسلام على الشيخ فهل لك في صحبتنا؟ فسألته : هل الدعوة خاصة أم في الأمر سعة؟ فقال: بل في الأمر سعة. صحبتهم إلى منزله رحمه الله بالرياض وكنتُ آخرهم سلاماً عليه, فلما عرفته باسمي ضغط على يدي ضغطة العارف من أكون!

فلما استقر بنا المجلس فقال رحمه الله: الشيخ محمد! فقلت: سم أطال الله عمرك على طاعته, فقال: عندي لك شيئ!! فقلت: اجعله بيني وبينك رحمك الله, فقال: دعني أُظهرها, فأطرقتُ رأسي قائلا: الذي ترون شيخنا, فقال: أنتم أخوال لنا يا آل فريح!! فانبلجتْ أساريري , وأجبته: هذا شرف لنا, وسألته: كيف ذلك ؟ فأخبرني وصار يحدثني عن أسرة الفريح كأنه واحد من أعمدتها, فقلتُ في نفسي إذا انفضَّ المجلس آخذ موعداً منه لأسجل ما لديه رحمه الله من علم عن الأسرة.
انقضى المجلس وأخذت رقم شيخنا غفر الله له ثم اتصلتُ به فحدد لي موعداً, حضر الموعد وحضر علمه المتدفق في الأسر والأنساب, وقد كنتُ لا أعلم أي أجدادنا الذي خرج من بلدة جلاجل إلى العطار؛ ولا أعرف كذلك أي جدٍّ يلتقي فيه عائلة الفريح في العطار مع أبناء عمهم في جلاجل, فلما سألته: أخبرني  إخبار الواثق من خبره, الراسخ في علمه, وسلسل لي خبرهم كأنه يقرأ من كتاب رحمه الله, ولما انتهى قال : اعتذر لك فإن ذاكرتي قد ضعفت, وقواي قد كلّت!! فقلت: لقد أخبرتني خبراً لا أطلب المزيد عليه رفع الله قدركم.

  زرته مرة في ضحى يوم الثلاثاء4/1/1428هـ  طالباً أن يملي علي ترجمة يسيرة عن سيرته العلمية والعملية.

فحدثني قائلاً أنا:محمد بن عبد العزيز بن سعد بن عبد العزيز بن عبدالله بن محمد ( الملقب بالسبيعي لشهامته وشجاعته ووسامته) ابن علي بن فاضل ابن عبد الله بن فاضل من آل غرير من آل حميد من بني خالد.

ولدتُ حسب التابعية1351هـ والصحيح1357هـ.
رحل جدي من شقراء إلى جلاجل, فكانت ولادتي و نشأتي بجلاجل.
 بدأ العمى الشيخ رحمه الله منذ كان عمره أربعة أشهر , وعينه اليمنى كف أكثر ضوؤها وعمره ثلاث سنوات وأكمل الباقي الجدري عام1361هـ .

دخل الكتاتيب..وتعلم على يد الشيخ  فوزان القديري و الشيخ محمد بن عبدالرحمن الربيعة.

 حفظ القرآن وهو لم يبلغ سن الخامسة عشرة رفع الله درجته  ثم رحل إلى الرياض لطلب العلم عام1367هـ وسجل مع الطلبة في حلقة الشيخ عبداللطيف آل الشيخ رحمه الله، وكان يجلس بعد صلاة الفجر يشرح للطلبة الآجرومية, وثلاثة الأصول, وبعد المغرب في الفرائض.
 وكان الشيخ العلامة محمد بن إبراهيم رحمه الله يجلس بعد الفجرفي الألفية وبلوغ المرام وزاد المستقنع.

التحق بالمعهد العلمي عام1375هـ وتخرج منه عام1379هـ ثم دخل كلية الشريعة عام1380هـ وتخرج فيها85 ـ1386هـ وبعد التخرج عين ملازماً قضائياً في محكمة الرياض عند الشيخ عبدالعزيز بن محمد بن زاحم رحمه الله وكان الشيخ ملازما له قبل كونه ملازما قضائيا مدة سنتين وكان الشيخ محمد يحب الشيخ ابن زاحم ويثني عليه كثيراً ويذكر فضله عليه ..

صدر تعيينه قاضياً بمحكمة الهدار من أعمال الأفلاج  عام 1387هـ , ومكث في محكمتها خمس سنين إلا شهرين , ثم نُقل لمحكمة عسيلة بالسر في محافظة الدوادمي عام 1392هـ, مكث فيها أربع سنين وبضعة أشهر, ثم نقل إلى محكمة المجمعة في شهر صفر عام 1396هـ, ومكث فيها اثنان وعشرون سنة  ثم صدر قراره بترقيته لدرجة قاضي تمييز في محكمة تميز مكة عام 1418هـ ثم أُحيل إلى التقاعد عام 1421هـ وتعاقدوا معه لمدة عامين ,  فكان مكثه في القضاء(37) سنة, جعلها الله في ميزان حسناته, ورفع به درجاته في الجنة.

 كان رحمه الله ذا علاقة بالمشايخ كالعلامة محمد الأمين الشنقيطي صاحب أضواء البيان ,والشيخ حماد الأنصاري, وقبلهما العلامة محمد بن إبراهيم , وغيرهم رحمهم الله.

 حدثني الشيخ غفر الله له أن رجلاً دخل المسجد واتجه إلى الشيخ محمد الأمين الشنقيطي ليسأله عن طهارة  الكولونيا وعن حكم استخدامها, وكان الرجل يُسرُّ بالسؤال لئلا يسمعه أحد إلا الشيخ, فأجابه الشيخ رحمه الله بصوت سمعه من كان في المسجد, ومنه عرفنا السؤال والجواب, فكان جواب الشيخ رحمه الله :الكولونيا بعضها مسكر, وبعضها غير مسكر, وغير المسكر طاهر, والمسكر منها نجس, ولِـمَ كان نجساً؟ لأن الله يقول:(إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس).

والرجس في اللغة: العذرة, وأي نجاسة بعد العذرة.

كان الشيخ صادعاً بالسنة, دالاً على الخير, محباً للعلم ولطلابه , لم يطلبه أحد ليقرأ عليه في العلم فردَّه, مع أنه يقول لمن أراد أن يقرأ عليه: ليس عندي زيادة عما عندكم.

كان أحب الكتب الفقهية إليه كشاف القناع للشيخ منصور البهوتي , وكان يصفه بالمغني.

كان رحمه الله فقيها, أديباً, محنكاً في القضاء, عالماً بالأنساب, سألته: ممن أخذتم علم الأنساب, فقال: من الوالد رحمه الله إذ كان عالماً بها, وكان الناس يقصدونه فاسمع منه ومنهم.

كان غاية في الكرم والبذل, ألح علي مرة لتناول العشاء, فقلت: بشرط أن آتي بالعشاء, فغضب رحمه الله, فلما أتيته فإذا هو قد أولم بشاة رحمه الله. 

كان الشيخ رحمه الله أحد المناقشين لرسالة الدكتوراه المقدمة من  الشيخ عبدالسلام بن برجس العبدالكريم رحمه الله .

الحديث عن الشيخ محمد الفاضل رحمه الله ذو شجون, ولا يمكن أن يوفي مقال قدره , مؤملاً أن يقوم أحد الطلبة بجمع أقضيته ودراستها, وأن تكتب ترجمة تظهر مكانته رحمه الله.

توفي رحمه الله صباح يوم السبت الموافق 5 / 12 / 1436 هـ رؤية , و 6 / 12  حساباً, في أيام عظيمة , وكان قد جاءه مرض أتعبه مدة من الزمان حتى لحق بأهل القبور, جعل الله قبره روضة من رياض الجنان, وصُلي عليه بجامع الملك خالد بالرياض بعد صلاة العصر, فرحمه الله رحمة واسعة وأصلح الله له عقبه, وإنا لله وإنا إليه راجعون.


كتبه
د.  محمد بن فهد بن عبد العزيز الفريح
عضو هيئة التدريس بالمعهد العالي للقضاء