الأربعاء، 7 سبتمبر 2016

الشيخ العلامة عبدالله ابن جاسر وكتابه مفيد الأنام من المفاخر


الشيخ العلامة عبدالله ابن جاسر وكتابه مفيد الأنام من المفاخر

لقد كنتُ, ولا زلتُ محباً للشيخ عبدالله ابن جاسر رحمه الله , منتفعاً من كتابه العظيم "مفيد الأنام" الذي حرر فيه مسائل الحج وغيرها.
ومن محبتي له رحمه الله ولكتابه"مفيد الأنام" أحببتُ أن أكتب طرفاً عن سيرته, وشيئاً من أخباره, سائلاً الله أن ينفعني, وأن ينفع من يطلع عليها , ويرزقنا جميعاً العلم النافع, والعمل الصالح.
فالشيخ عبدالله هو العلامة الفقيه القاضي الفرضي عبد الله بن عبد الرحمن بن جاسر بن محمد بن جاسر التميمي الوهيبي  رحمه الله.

 وُلد في أشيقر من منطقة الوشم في شهرِ محرم عامَ 1313هـ، ورباه والده عبد الرحمن أحسن تربية، ولما بلغ من العمر سبع سنين جعله عند عبد الرحمن بن موسى، يعلمه القرآن الكريم، ولما بلغ من العمر خمس عشرة سنة حفظ القرآن .

ثم اشتغل بطلب العلم لدى الشيخ العالم المؤرخ إبراهيم بن صالح بن عيسى رحمه الله في بلد أشيقر ولازمه ملازمة تامة، وكان ابتداؤه لطلب العلم لديه سنة 1326هـ، ولا زال يقرأ عليه في كثير من الفنون قراءة بحث وتحقيق إلى سنة 1342هـ .

ومن الكتب التي قرأها على شيخه في أول الطلب مجموعة التوحيد المطبوعة على نفقة قاسم بن ثاني رحمه الله، ثم بعد إكمالها قرأ عليه كتاب فتح المجيد في التوحيد كرره عليه مراراً، ثم قرأ عليه في الفقه شرح الدليل للشيخ عبد القادر التغلبي، ثم شرح الزاد للشيخ منصور البهوتي، ثم شرح الشنشوري مع حاشية إبراهيم الباجوري على الرحبية في الفرائض، كرره قراءةً على شيخه ما لا يقل عن تسع مرات، ثم في العربية شرح الشيخ خالد على الآجرومية، ثم متممة الآجرومية وشرحيها للأهدل والفاكهي، ثم شرح القطر لابن هشام، ثم قرأ عليه شرح المنتهى للشيخ منصور البهوتي قراءة بحث وتحقيق وتفهم وتدقيق, وأكمل دراسته عليه مرتين، وعلق على شرح المنتهى حين قراءته على شيخه قال الشيخ عبدالله البسام رحمه الله:(وعلق على شرح المنتهى على نسخته الخطية أثناء الدرس والمطالعة حاشية حافلة تحتوي على فوائد نفيسة, وهي باقية حتى الآن لم تجرد، ولو جردت لجاءت في مجلدين وليتها تجرد، لأن الكتابة قد استغرقت جميع مواضع البياض، ويخشى من انقطاع أطراف الورق، فتذهب الفائدة بفقدان بعض الكلمات) .

 وقرأ على شيخه في العروض كتاب (الجدول الصافي في علمي العروض والقوافي)، وقرأ عليه الجزرية وشرحيها لابن المصنف والشيخ زكريا الأنصاري، وقرأ عليه أطرافاً من الكتب الستة, وتفسير القرآن العظيم لابن كثير، وغير ذلك من الفنون والعلوم.

 ولازم المترجَم له شيخه الشيخ إبراهيم  ست عشر سنة، إلى أن انتقل الشيخ إبراهيم إلى بلد عنيزة.
وقد أجازه شيخه الشيخ إبراهيم بن عيسى رحمه الله بإجازة حافلة.

وكان الشيخ عبدالله رحمه الله أثناء طلبه للعلم ينسخ بعض الكتب بيده, وقد اطلعتُ على جزء من كتاب الإنصاف للمرداوي في الفقه الحنبلي نسخه الشيخ عام 1337هـ .

وكان يُعلِّق على الكتب التي يقرأها, ويصحح, ويضيف بعض الفوائد, وأحياناً يقابل المطبوع بالمخطوط, فقد قابل مثلاً كتاب "القواعد" لابن رجب المطبوع بالمخطوط, وصحح, وعلَّق, وكتب في آخره: (قابلتُ هذه النسخة على النسخة الخطية بالدقة, والعناية, والإتقان, ووقع الفراغ من المقابلة في الرابع من شهر ربيع الثاني سنة1361هـ وذلك بمنزلي بالعنبرية بمدينة خير البرية نبينا محمد عليه من الله أفضل الصلاة والسلام, ورزقنا ربنا جل وعلا بمتابعته دار السلام بمنه وكرمه وجوده فإنه أرحم الراحمين, وأكرم الأكرمين...) . 

وكان رحمه الله كثير التملك للكتب المطبوعة والمخطوطة, بل يصف بعض المخطوطات وصف الخبير بها, العالم بخوافيها.

وقد جدَّ الشيخ عبدالله رحمه الله في تحصيل العلم واجتهد في طلبه, فأخذ عن العلماء ولازمهم, وتتلمذ على عدد منهم, فأول مشايخه هو الشيخ عبدالرحمن بن موسى الذي علّمه قراءة القرآن.

 ومن العلماء الذين أخذ عنهم:

1.   الشيخ العلامة المؤرخ إبراهيم بن صالح بن عيسى رحمه الله وقد مضى ذِكْر طرف من تتلمذ المؤلف وقراءته عليه.

2.   الشيخ العلّامة السلفي محمد الطيب الأنصاري رحمه الله، فقد قرأ عليه بالمدينة النبوية شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك، واستفاد منه في علم العربية كثيراً, وقد خصص الشيخ محمد مجلساً خاصاً بالشيخ عبدالله ليقرأ عليه.

3.    الشيخ سعد وقاص رحمه الله قرأ عليه في التجويد.

4.   الشيخ المحدث عبيد الله بن "صبح" الإسلام السندي الدهلوي رحمه الله, وقد أجازه بمروياته عن مشايخه.

5.    الشيخ محمد عبد الحي الكتاني رحمه الله, سمع منه الشيخ عبدالله الحديث المسلسل بالأولية بمكة في 24/12/1351هـ, وقد أجازه بجميع ما له من مرويات ومقروءات ومسموعات.
وله مشايخ غير هؤلاء رحمهم الله جميعاً .

سافر الشيخ رحمه الله إلى مكة عام 1348هـ وتولى القضاء بها في شهر صفر سنة 1350هـ .
 ثم نُقل إلى قضاء الطائف عام 1355هـ .
ثم إلى القضاء بالمدينة النبوية عام 1356 لمدة سبع سنين.

وفي أول سنة 1363هـ صدر أمر الملك عبد العزيز رحمه الله بنقله إلى مكة للعمل عضواً برئاسة القضاء, ثم صدر الأمر بأن يكون معاوناً لرئيس القضاء .

ثم صار رئيساً لمحكمة التمييز بالمنطقة الغربية وذلك في شهر ذي الحجة عام 1381هـ , مع عضويته في مجلس القضاء, وبقي في هذا العمل حتى تقاعد في 26/6/1393هـ .

يقول الشيخ عبدالله البسام رحمه الله : (نُقلتُ من رئاسة المحكمة الكبرى بالطائفة إلى عضوية محكمة التمييز للمنطقة الغربية بمكة المكرمة، وكان المترجَم يومئذ هو رئيس هذه المحكمة، وذلك عام 1391هـ حتى تقاعد عن العمل في 29/6/1393هـ  ... وفي هذه السنة المذكورة سنة 1393هـ عَرَضَ على المترجَم مجلسُ القضاء إعادة تمديد مدة عمله بعد أن مُدِّد له عدة مرات، فرفض ذلك وارتاح عند مكتبته بمكة المكرمة) .
مكث الشيخ في القضاء ثلاثاً وأربعين سنة وبضعة أشهر, أسأل الله أن يجعلها ذخراً له يوم يلقاه.
كان رحمه الله مشاركاً في لجان علمية, خاصة ما يتعلق بالمشاعر المقدسة من جهة حدودها, وبعض المسائل الفقهية المتربطة بها.
ولم يكن الشيخ مقبلاً على التدريس منشغلاً به, وذلك لكثرة أعماله وانشغاله بالقضاء والتأليف, ومع ذلك درَّس  مادتي التوحيد والفقه الحنبلي، في مدرسة العلوم الشرعية بالمدينة النبوية، التي أسسها أحمد الفيض آبادي في سنة 1340هـ.
قال الشيخ العلامة محمد بن عبدالعزيز بن مانع رحمه الله معلقاً على نسخته من كتاب مفيد الأنام: (المعروف أن المؤلف لم يشتغل بالتدريس لا لقصور به عن ذلك, ولكن لكثرة أعماله الشاغلة له عن التفرغ للتعليم).

مؤلفاته لقد ألَّف الشيخ كتباً ورسائل وهي:
1.  مفيد الأنام ونور الظلام في تحرير الأحكام لحج بيت الله الحرام, قال الشيخ عبدالله رحمه الله:(فرغتُ من تأليفه ثالث ربيع الآخر سنة سبع وستين وثلاثمائة وألف, بدارنا بمكة المشرفة المعروفة في حارة شعب عامر... ثم إني بعد الفراغ من تأليف هذا الكتاب تراخيت عن تبييضه؛ لما أنيط بي من كثرة الأعمال, ثم استعنت الله جل وعلا وابتدأت في تبييضه غرة محرم سنة اثنتين وسبعين وثلاثمائة وألف,وفرغت منه في آخر ربيع الأول من السنة المذكورة).  

 وهذا الكتاب "مفيد الأنام" كتاب عظيم القدر, تام الفوائد, هو من أنفس الكتب في بابه , وقد استبشر أهل العلم به قبل صدوره حتى قال الشيخ علي الهندي رحمه الله: (كنتُ أسمع من سنتين بشرى لازلت أنتظرها بفارغ الصبر؛ وهي نبأ ظهور كتاب في مناسك الحج... لفضيلة الشيخ عبدالله بن جاسر. وكنت مسروراً جداً لهذه البشرى وهذا النبأ... وها هي البشرى قد صحت, والأمنية قد تحققت, فظهر الكتاب حافلاً بالمواضيع النادرة..).

ولا يزال أهل العلم يرجعون إليه, ويستفيدون منه, بل ويذهبون به إلى الحج, ويحملونه معهم بين المشاعر, وقد حدثني شيخنا العلامة أحمد بن عبدالله بن حميد حفظه الله أن والده سماحة الشيخ عبدالله رحمه الله كان يصطحب كتاب مفيد الأنام أيام الحج.

وحدثني معالي الشيخ محمد بن ناصر العبودي غفر الله له أنه قرأه على سماحة الشيخ عبدالله بن حميد رحمه الله قبل أكثر من خمسين سنة, وأن الشيخ ابن جاسر كان يأتي إلى الشيخ عبدالله فيتذاكران العلم.

وقال إمام الحرم المكي معالي الشيخ محمد السبيل رحمه الله: (كتابه "مفيد الأنام" خير شاهد على فقهه وعلمه رحمه الله, فهو من أنفع وأجود كتب المناسك). 

والكتاب أثنى عليه سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله, وأحال عليه, وقال سماحة الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ غفر الله له عن الكتاب :

(أبدع في تحريره وأجاد, وأطال النفس في تفصيله وأفاد...), ومن أهم ما تميز به الكتاب بعد تحرير المسائل الفقهية وحُسن النقل, تحديد الأماكن التي في المشاعر تحديداً دقيقاً, فتراه تارة يقول عن موضع هو بين كذا وبين كذا ألف ذراع كما اختبرنا ذلك , ولما ذكر الصخرات التي وقف عندها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفات بيّن موضعها وحرر مكانها, وأفاد رحمه الله أنه لم يجد من حدد موضعها في كتاب تحديداً واضحاً كافياً , ولما ذكر "ثنية كُدى" قال:(تعرف الآن بريع الرسام ... وهي الآن في الشارع العام الموصل إلى جرول).

ولما تكلم عن العَلَم الفاصل بين عرفة وعرنة وبيان موضع الحد , قال: (وجدتُ مكتوباً ... في حجر ملزق بالعلم ما نصه: أمر بعمارة علمي عرفات ... سيدنا ومولانا الإمام الأعظم مفترض الطاعة على كافة الأمم أبو جعفر المنصور عبدالله أمير المؤمنين, أمتع الله بطول بقائه) إلى غير ذلك من الفوائد التي لا تجدها في غيره.

وقد أمضى الشيخ عبدالله بن جاسر رحمه الله في تأليف الكتاب ما يقارب من ستة عشر عاماً, كما حدثني الشيخ أحمد بن حميد عن والده سماحة الشيخ عبدالله غفر الله لهما.
ولعظم مكانة هذا الكتاب تناوله العلماء قراءة وتعليقاً وتسديداً .

2.   حاشية على المنتهى وشرحه,  علقها أثناء الدرس وفي أوقات المطالعة, قال الشيخ عبدالله البسام رحمه الله:(علَّق على شرح المنتهى على نسخته الخطية أثناء الدرس والمطالعة حاشية حافلة تحتوي على فوائد نفيسة, وهي باقية حتى الآن لم تجرد، ولو جردت لجاءت في مجلدين وليتها تجرد) .
 
3.   فوائد في الفقه الحنبلي, لا تقل عن ستة كراريس, وقد اطلعتُ على فوائد فقهية في صفحات قيدها الشيخ رحمه الله.

4.   تنبيه النبيه والغبي فيما التبس على الشيخ المغربي, ألفها في المدينة في آخر     شعبان سنة 1358هـ, رد فيها على رجل يقال له: صالح التونسي, وذلك حين أنكر تكليم الله موسى، وزعم أن جبريل أظهر لموسى كلام الله من اللوح المحفوظ، وهذا اعتقاد فاسد مبتدع خلاف ما عليه أهل السنة والجماعة، من أن الله جل وعلا كلَّم موسى حقيقةً بكلام سَمِعَه موسى من الله تقدس وعلا، وتتضمن الرسالة سماع جبريل عليه السلام القرآن الكريم من رب العزة والجلال والإكرام، وأن الله يتكلم إذا شاء بصوت.

وهذا الردُّ الذي كتبه الشيخ عبدالله رحمه الله إنما هو من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي كان الشيخ رحمه الله حريصاً على أن يقوم به.

5.   رسالة في وجوب السمع والطاعة لولي أمر المسلمين وإن جار ما لم يأمر بمعصية، ألفها في بلد شقراء في 25/8/1347هـ , وسبب تأليفها ما حصل من الإخوان (إخوان من طاع الله) ومنازعتهم لولي الأمر الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود رحمه الله، قال الشيخ عبدالله البسام رحمه الله: (وهي رسالة مفيدة),  وقد منَّ الله عليَّ بتحقيقها والآن في المطبعة نفع الله بها, وهي رسالة قيمة تمسُّ الحاجة إليها في هذا الزمان.

 وقد جعلتُ بين يدي الرسالة ترجمة حافلة له رحمه الله .
 وهذا المقال مأخوذ مما كتبته هناك .

6.   رسالة في تحريم الغناء والمعازف والمزامير, كتبها الشيخ رحمه الله عام 1381هـ , وقد هيأتُها للطبع بفضل من الله.

7.   تحفة الأحباب في أعيان تميم والرباب, قال الشيخ عبدالله البسام رحمه الله: (وقد رأيته في سبعة أجزاء كبار بخطه، ولكنه أخفي بعد موته).

حدثني أخي الشيخ المؤرخ عبدالله البسيمي حفظه الله ونفع به أنه ما نصه: (في يوم الاثنين 22/8/1423هـ اتصلتُ بالشيخ عمر بن محمد الجاسر أسأله عن مؤلف عمه الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن الجاسر الذي ألفه عن قبيلة تميم وعنوانه (تحفة الأحباب في أعيان تميم والرباب)، فأفادني الشيخ عمر أن عمه أخذ في تأليفه عشرين عاماً، وأن الشيخ العلامة محمد بن إبراهيم آل الشيخ قدَّم له، وقال الشيخ عمر: إن الشيخ حسن آل الشيخ أرسل لي شخصياً رسالة يستفسر فيها عن الكتاب. ويقول الشيخ عمر: بأن عمي قد طلب مني طبع الكتاب المذكور, ولكني تأخرت وسوفت، فلما ذهبتُ إليه لآخذه للطبع كانت نظرة عمي قد تغيرت تجاه الكتاب ..) .

والشيخ عبدالله بن جاسر رحمه الله كان له اهتمام قديم بالأنساب, فقد كتب فيه ونقل وحرر وهو في الثانية والعشرين من عمره.

ثناء العلماء عليه:

والشيخ عبدالله بن جاسر رحمه الله قد حاز إعجاب مشايخه ومعاصريه من العلماء فأثنوا عليه بما هو أهل له, فممن أثنى عليه:

1.    شيخه الشيخ العلامة إبراهيم بن عيسى رحمه الله حيث قال:(الولد الصالح, والفتى الأديب اللوذعي الفالح عبدالله بن عبدالرحمن بن جاسر رزقه الله علماً نافعاً وعملاً صالحاً بمنه وكرمه) .

2.   وقال عنه الشيخ العلامة مفتي الديار محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله: (عالم فاضل لديه من الملكة العلمية, والخبرة الوطنية, والثقة والنباهة ما لا يوجد عند كثير من أضرابه) .

 وكان الشيخ محمد يرشِّح الشيخ عبدالله للجان علمية, ويجتمع به وبالعلماء ليتذاكروا ويتباحثوا مسائل العلم, خاصة ما طلب ولي الأمر الفتوى فيه.

3.   وقال الشيخ الفرضي اللغوي عبدالعزيز بن سليمان الفريح رحمه الله: (العالم الفاضل الورع الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن بن جاسر).

4.   وقال الشيخ علي بن محمد الهندي رحمه الله واصفاً الشيخ عبدالله: (رجل العلم والفقه والدين, والمتصف بدقة البحث, واستنباط المسائل الدقيقة, والصبر على القراءة -مهما كانت طويلة- ومحبة المراجعة والاستفادة, والرجوع في المناقشة مع من كان بيده الحق).

5.   وقال الشيخ عبدالله البسام رحمه الله:(عرفتُ من خلال [عملي معه في المحكمة] مدى اطلاع المترجَم على العلوم الشرعية، لا سيما الفقه، فهو فيه واسع الاطلاع، سديد البحث).

6.   وقال معالي الشيخ محمد بن عبدالله السبيل إمام وخطيب المسجد الحرام رحمه الله: (كان من العلماء المعروفين, والفقهاء المحققين, والقضاة البصيرين).

7.   وقال الأستاذ عبدالعزيز بن مزروع الأزهري رحمه الله عن الشيخ عبدالله: (يعد من أفقه العلماء, وأورعهم وأعلمهم وأحبهم للاطلاع والتأليف, والاعتكاف في الحرم بعد الانتهاء من عمله الرسمي).

8.    وقد سألتُ الشيخ صالح الحصين رحمه الله عن الشيخ عبد الله فترحم عليه وقال:(نِعْم الرجل رحمه الله طيبة وخُلُقاً ولطافة, ولقد جمعتنا لجنة مكونة من عدة جهات حكومية).

وبعد عمر حافل قضاه الشيخ رحمه الله بين طلب للعلم ونسخ لكتبه, وبين تأليف وبحث وتحقيق, وبين قضاء وقيام بشؤونه, توفي في اليوم العاشر من شهر صفر سنة 1401هـ في المستشفى العسكري بالهدا بالطائف, ونقل إلى مكة وصُلِّيَ عليه في المسجد الحرام، ودفن بمقبرة العدل, وقد بلغ من العمر 88 سنة رحمه الله رحمة واسعة وجزاه عن خير الجزاء وأوفاه, وكم أتمنى أن تجمع أقضية الشيخ, وتُقدَّم بها رسالة علمية ينتفع بها أهل العلم والاختصاص, فالشيخ ثروة علمية قضائية بل هو من مفاخر علماء بلادنا رحمه الله.

 
 

كتبه/

د.  محمد بن فهد بن عبد العزيز الفريح

عضو هيئة التدريس بالمعهد العالي للقضاء

الثلاثاء، 2 أغسطس 2016

الشيخ عبدالمحسن العباد ومعلماه وليلة وفاء

الشيخ عبدالمحسن العباد ومعلماه وليلة وفاء

اتصل بي شيخنا عبد المحسن العباد مدَّ الله في عمره على طاعته ليدعو ابنه لحضور مناسبة عزيزة قائلاً يوم الأحد ليلة الاثنين الموافق ١٠/١٢ سيكون أستاذاي اللذان تعلَّمتُ منهما أثناء المرحلة الابتدائية في ضيافتي!

فرحتُ بهذه المناسبة جداً, وجال في خاطري معاني الوفاء للمشايخ والمعلمين والأساتذة ومن كان له فضل في تعلُّم المرء , وتذكرت كلمة شيخنا عبدالمحسن حين مُنِحَ جائزة صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبدالعزيز رحمه الله للسنة النبوية في قوله: (في كل ليلة وأحياناً في حالات أخرى أدعو بالمغفرة لأصناف من الناس من الأقارب وغيرهم , آخر هذا الدعاء: وشيوخي وتلاميذي وسائر المسلمين والمسلمات..).

وورد على خاطري قول الإمام أحمد لابن الشافعي رحمهم الله:(أبوك أحد الستة الذين أدعو لهم في السَّحَر).

ما أجمل الوفاء! وما أجمل ساعاته! وما أحلى أوقاته!

كنتُ أترقب موعد شيخنا حتى حضر!

ذهبنا إلى المكان المعد للاحتفاء, جاء الضيوف ودخل أستاذ الشيخ الأول وهو الشيخ محمد بن عثمان البشر حفظه الله( المولود عام 1352هـ), ثم جاء الأستاذ الآخر وهو الشيخ محمد بن أحمد الملحم حفظه الله (المولود عام 1350هـ).

جلس الأول عن يسار الشيخ والثاني عن يمينه, بدأت دقائق الوفاء لطيفة خفيفة تحدَّث شيخنا الشيخ عبدالمحسن حفظه الله مبيناً أنها فرصة سعيدة, ومرحباً بمعلميه, شاكراً تلبية الدعوة, ذاكراً  أن المدرسة الابتدائية التي درس فيها افتتحت عام 1368هـ, وكان الشيخ محمد البشر حاضراً وقت افتتاحها... وذكر الشيخ غفر الله له أنه استفاد كثيراً من أُستاذيه, وتعلَّم العلوم المفيدة لاسيما ما يتعلق بالإملاء والخط والمطالعة من الشيخ البشر, ومن الشيخ الملحم الحساب والهندسة.

ومن لطيف ما ذكره شيخنا عن مدرِّسه الشيخ الملحم أن مفتشاً حضر وسأل الطلاب في درس الحساب الذي يتولاه الشيخ الملحم, فأجاب الشيخ عبدالمحسن عن السؤال إجابة صحيحة فكافأ المدرَّسُ تلميذه  (بواحدة من الطباشير) الذي يكتب به على السبورة, قال الشيخ عبدالمحسن: وكانت جائزة نفيسة!

وذكر الشيخ عبدالمحسن حفظه الله أنهم في وقت الدراسة كانوا في قِلَّة ولم يكن عندهم شيء من المال, وذكر أنه لما كان في السنة السادسة وكانت تلك المرحلة تتطلب أدوات الهندسة وغيرها, طلب من أحدهم أن يأتي بها إليه من الرياض, وكان قيمة تلك الأشياء تسع ريالات, فكانت ديناً في ذمة الشيخ, قال الشيخ حفظه الله:( هو أول دين حصل علي), وقد أوفى الشيخ دينه بأن أعطى صاحب الدين (خيشتي جراد)!

 لأنه لم يكن عنده مال يستطيع دفعه لصاحب الدين.

فصاحب الدين يبيع إحداهما ويستوفي منها, والخيشة الأخرى تكون لصاحب الدين هدية من الشيخ.

ومن اللطيف أن الشيخ محتفظ بجملة من كراساته ودفاتره التي استخدمها في المرحلة الابتدائية!

وأخبرنا الشيخ عبدالمحسن حفظه الله أنه درس الكتاتيب قبل الابتدائي عند الشيخ فالح الرومي رحمه الله.

ألقى بعد ذلك الشيخ محمد البشر حفظه الله كلمة:

جميل لفظها, لطيف حرفها, خفيف وقعها, ومما لفت نظري إليها, وأسر سمعي منها, أنه كلما ذكر الشيخ عبد المحسن في كلمته قال:(شيخنا الشيخ عبدالمحسن), وذكر حفظه الله أن المدة التي أمضاها في الزلفي ليست طويلة, لكن وفاء الشيخ عبدالمحسن أنه لا يزال يذكرها ويتصل بأستاذه لأجلها.

وذكر الشيخ البشر أنه لما كان مديراً للمدرسة الثانوية ببريدة ما أحسَّ إلا بمدير المعهد العلمي يأتي إليه ومعه الشيخ عبدالمحسن الذي كان حريصاً أن يسلم على أستاذه.

وقال الشيخ البشر: زرت الشيخ عبدالمحسن في حلقته في المسجد النبوي فرحب بي, وقال لطلبته الذين حوله: هذا أستاذي.

رأيتُ الشيخ البشر يقبل رأس شيخنا عبدالمحسن.

ثم جاءت كلمة الشيخ الملحم والتي تولى إلقاءها نيابة عنه أحد أبنائه, وكانت كلمة تنضح شكراً على هذا الوفاء الذي لا يستغرب من معدنه.

  وحقيقة أن أحرفي لا تبلغ ما في نفسي مما رأيته وسمعته في هذا الموقف المثالي, فلعله يكون درساً للتلاميذ في معرفة الوفاء لمعلميهم.

ورحم الله ذلك الجيل معلمين وطلاباً الذين أثروا وطنهم, ونفعوا أمتهم, وقاموا بالأعمال المناطة بهم.

رحم الله ذلك الجيل الذي عَلِم قيمة العلم, وصبر على التعلم, وأحسن العمل, وقام بالوفاء لبلاده وأساتذته.

رحم الله ذلك الجيل الذي كان قدوة حسنة, وتأريخاً مضيئاً.

وفي الختام أشكر شيخنا الشيخ عبد المحسن على دعوته , وأسأل الله أن يغفر له ويحسن إليه, وأن يبارك في عمره وعمله , وأشكره مرة أخرى على هذه اللوحة الوفائية التي ارتسمت في نفوس الحاضرين, وهذا الدرس التربوي الذي ينبغي أن نتعلم منه جميعاً, فقد كان درساً عملياً انهملت فيه دموع, وتأثرت به نفوس فجزاكم الله خيراً شيخنا, وأشكر أبناء الشيخ الكرام على حسن استقبالهم, وبشاشتهم, ولطفهم, وترتيبهم للحفل لا حرمهم الله الأجر, ووفقهم لكل خير.

وأسأل الله أن يجزي مشايخنا ومعلمينا وأساتذتنا عنا خيراً

وكتبه
 محمد بن فهد بن عبد العزيز الفريح
عضو هيئة التدريس بالمعهد العالي للقضاء
14 / 10 / 1437 هــ

  

الخميس، 7 يوليو 2016

أتت بهم الذاكرة في يوم عيد ... !

أتت بهم الذاكرة في يوم عيد ... !

جالت بي الذاكرة بعد عصر يوم عيد الفطر لهذا العام (1437هـ) فتذكرتُ كباراً, واستذكرت رجالاً وجبالاً في مجالهم وعلمهم, مرّت عليَّ ساعة تذكُرهم لحظات جميلة كأني في منام لطيف, وقد أحببتُ أن أكتب ما علق بذاكرتي من تلك الذكريات, معتذراً عن عفو الخاطر فيها, وأرجو مسامحة القراء عما يكون في هذه السائحة التذكّرية ! فقد تكون ذكريات  لا تستحق التسجيل! ومع ذلك سأكتبها وأقيدها ؛ فاليوم يوم عيد, وفيه فسحة ليست في غيره, ثم لو لم يأت من هذه الذكريات إلا الترحم على أولئك الرجال لكفى.
 والذكرى التي سنحتْ, وحرصتُ على تقييدها مع بعض أولئك الكبار ستكون سرداً وصفياً في غالبه, وسأكتفي بموقف أو موقفين وقد أشير إلى شيء حدثني به, وقد يكون الأمر مجرد تذكر لأول لقاء معه, بل لربما يكون هو اللقاء الوحيد, ولن أذكر هنا إلا من فارقنا من دار النصب والتعب ممن لم أكتب عنه من قبل .
فأول أولئك الكبار الذين أذكرهم متشرفاً بهم: هو سماحة شيخنا الإمام عبدالعزيز بن باز رحمه الله وقد حضرتُ دروسه مدة وحصل لي معه بعض الذكريات, وقد سألته رحمه الله عدة أسئلة قيدت إجاباتها مع بقية أجوبة مشايخ آخرين ولعل الله يعينني للنظر فيها وترتيبها.
مرَّ بي موقف مع سماحة الشيخ عبد العزيز رحمه الله هو لطيف من جهة تذكره, صعب عندما وقع وحصل!
ذهبتُ مع أحد الفضلاء من جيراننا في حوطة سدير وكنا متجهين من مكة إلى الطائف قاصدين الشيخ عبدالعزيز رحمه الله وكان ذلك في عام 1419هـ , ذهبنا إلى المسجد الذي يصلي فيه سماحته وقد بكَّرنا لصلاة الفجر لنكون بجوار الشيخ, دخلنا المسجد وقد انتهى المؤذن من الأذان فما هي إلا مدة يسيرة حتى دخل سماحته رحمه الله , ومشى حتى حلَّ خلف الإمام , جلس صاحبي بجواره فلما سلَّم الشيخ من تحية المسجد مدَّ يده ليصافح عمن يمينه, فصافحه صاحبي وعرّفه باسمه فعزمه الشيخ على تناول الغداء معه! أما أنا فلم يكن دوري إلا مراقبة الشيخ, ولم أحرص على السلام عليه؛ لأني زورتُ في نفسي أن أسلم عليه إذا قام خارجاً من المسجد, وبعد صلاة الفجر مكث الشيخ يذكر الله حتى خرج أكثر من في المسجد إن لم يكن كلهم, ورأيت الشيخ يعد بيده مائة مرة (لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير), فقلت في نفسي: سبحان الله مع كثرة أعماله التي لا تستطيع أن تقوم بها مؤسسات إلا أنه يحافظ على ورده, ثم ذكرت أن هذا مما يعين على القيام بالأعمال.
قام الشيخ من مكانه متوكئاً على عصاه باليد اليمنى, واضعاً يده اليسرى على ذراع قائده, مشى الشيخ قليلاً فتقدمتُ إليه مسلِّماً, وحيث إن صوتي ضعيف من الأصل,  وأظن أنه ازداد ضعفاً هيبة بالوقوف أمام هذا الجبل, فقلت: السلام عليكم, ووآسفاه لم يسمع الشيخ إلقائي للتحية! فهو مستمر في مشيه وأنا أمامه  مادّاً يدي, متجهاً بجسدي إليه, مقبلاً برأسي جهة رأسه لأُقبِّله, فلم أع إلا وضَرَبَ رأسي رأسه ضربةً رنت منها أذني! واختل وقوفي! والشيخ لا يزيد عن قول : لاحول ولا قوة إلا بالله! فأردتُ أن أتدارك شيئاً من الموقف الذي لا أُحسد عليه! فقلت مرة أخرى : السلام عليكم, قلتها: وأنا أقول هل خرج السلام بصوت مسموع! فلما سمعتُ الشيخ يرد علي السلام بهمهمته المعروفة فرحتُ, ثم سأل الشيخ عن حالي! وكأن شيئاً لم يكن! وأردف قائلاً تغد معنا اليوم, فقلت: يا سماحة الشيخ ضربة رأس وغداء! ثم مشيتُ معه حتى ركب سيارته... ذهبنا إليه في دار الإفتاء في اليوم نفسه فأعاد علينا الدعوة إلى الغداء مؤكداً ألا نتركه.
ذهبنا إلى منزله, وكان من ضمن الحضور طلبة من الكويت, جاءوا لتناول الغداء مع الشيخ رحمه الله, فلما دخلنا المكان المعد لتناول الطعام تزاحم الكويتيون جزاهم الله خيراً على السفرة التي يجلس فيها الشيخ رحمه الله حرصاً منهم على القرب من سماحته, فزاحمتهم حتى أخذت مكاناً مناسباً أمام الشيخ, كنت أتابع الشيخ في فعله, فكان في غاية الكرم واللطف مع ضيوفه, حتى أنه لما انتهى من الأكل التفت إلى من بجواره من أصهاره يسأله بصوت منخفض, هل انتهى الحاضرون من تناول الغداء؟ فقال: لا, فمكث الشيخ مكانه حتى انتهوا , فلما قاموا قام رحمه الله ثم رجعنا إلى المجلس, فطلب  المشرف على الكويتيين من الشيخ أن يوجه إليهم كلمة , فقال الشيخ بعد أن حمد الله وأثنى عليه : هذه كلمة للكويتيين وغيرهم من الإخوة, ثم فسَّر لنا الشيخ سورة العصر بكلمات تشع ضياءً  ثم جاءت الأسئلة فسأله صاحبي إذ كان جالساً بجواره سؤالاً  عن أنهم في أمريكا يقومون بمظاهرات سلمية ينددون بفعل اليهود في فلسطين - وكان صاحبي مبتعثاً هناك ومسؤولاً عن مركز إسلامي- فهل يجوز لهم المشاركة في تلك المظاهرات حتى لا يتهمون بأنهم لا يهتمون بقضايا المسلمين؟ فأجاب الشيخ رحمه الله: هذا من البدع والمحرمات ولو كانت سلمية, فإنكار المنكر ليس هذا سبيله, والتعبد بذلك من المحدثات... خرجنا من منزل الشيخ على أذان العصر وكلنا قد ملئت قلوبنا الفرحة بالجلوس مع هذا العالم , فرحم الله شيخنا ابن باز رحمة واسعة.
في عام 1430هـ ذهبتُ بصحبة أحد المشايخ غفر الله له لزيارة رجل كبير معمر  ببلدة الهياثم, دخلنا مزرعته, فإذا هو رجل قد عركته الحياة وعركها ! وقد بلغ من الكبر عتياً , جلسنا إليه رحمه الله فأخبرنا أنه ولد عام 1334هـ, فسألته عن وقعة السبلة إذ بلغني أنه يعرفها, فقال: نعم, شاركتُ فيها مع الملك عبدالعزيز رحمه الله, وكان عمري 14سنة, وكان يوماً عصيباً, كان معهم في بداية الأمر الهواء وقد وضعوا لهم متارس من الحجارة يُخْرجون منها بنادقهم ويطلقون علينا, ولكن كان التوفيق من الله للملك عبدالعزيز ومن معه رحمهم الله,  فقلب الله الهواء لنا عليهم, وثار عليهم غبار من الأرض لعله من ركض الخيل ومشي الرجال , وكنتُ من الراجلة, فنصرنا الله.
ومن عجيب هذا الشيخ رحمه الله أنه يجيد اللغة الإنجليزية؛ لكونه عمل في أرامكو سنوات, فأتقن تلك اللغة, وهو مع ماحباه الله من علوم ومعارف سواء في الأنساب أو رواية التأريخ أو غيرها, شاعر مجيد, وقد أهدى إلينا ديوانه, ذلكم هو الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن قاسم العنقري رحمه الله, وقد توفي عام 1432هـ وقد قارب المائة رحمه الله وغفر له, ولا أدري كيف تذكرته في هذا اليوم! لا سيما أني لم أجلس معه إلا تلك الجلسة رحمه الله وغفر له.
كنت في لبنان لإلقاء دورة علمية فقلت للشيخ المنسق هناك جزاه الله خيراً من أكبر المشايخ عندكم هنا؟ فقال: قد يكون الشيخ زهير الشاويش, (بتحبوا) أن نزوره؟ فقلت: نعم, توجهنا إلى حازمية بيروت حيث يسكن الشيخ, ودخلنا عليه فبعد السلام والسؤال عن الحال, قدّم لنا رحمه الله المهلبية! ثم سألته كيف حصل على المخطوطات؟ فقال: هذا جهد سنوات, وسأقول لكم أن مخطوطات كثيرة كانت تباع بثمن رخيص عند رجل يسمى حنيشل في محل له بالرياض, وحدثنا عن كيفية ذهابه بمخطوطات من نجد إلى قطر , ومنها إلى بيروت باسم غير اسمه! وذلك لما اشترى كتباً مخطوطة من ورثة أحد علماء نجد بعد وفاته والتي كانت عند حنيشل رحمهما الله.
قال الشيخ بعد حديثه هل أنا أجزتكم في رواية الحديث عني؟ فقلت: لا, فإني أول مرة أراك غفر الله لك, فطلب أوراق الإجازة بعد أن أجازنا جميعاً وكنا ثلاثة وختم عليها, فودعناه رحمه الله بعد الشكر له على حسن الضيافة.  
رسخ في الذاكرة لقاء وحيد مع اللغوي والتربوي والعبقري الأستاذ عبدالعزيز بن عبدالله الرويس رحمه الله حيث ذهبت بالشيخ سعد الحصين رحمه الله لزيارته حين طلب مني ذلك, قال الشيخ سعد: هذا الرجل الذي سنذهب إليه معه كمبيوتر إلهي! فهو عجيب في الحفظ يحفظ الألفيات كألفية ابن مالك , وألفية العراقي, وألفية السيوطي, غير حفظه للمتون الأخرى!
فتح لنا باب منزله مرحِّباً وفرِحاً بالشيخ سعد فتجاذبا أطراف الحديث في أمور كثيرة, وكان الأستاذ عبدالعزيز الرويس يستشهد بأبيات من الألفيات فيقول مرة قال ابن مالك, ومرة قال العراقي!
جاء ذكر موضع في شعر أحد الشعراء المتقدمين فقال: وهم الشيخ عبدالله بن خميس رحمه الله في تحديد موضعه؛ لأن الشاعر قال قبلها كذا, وهذا مكان معروف جهة الخرج.(كنتُ كتبت تصويبه للوهم, وأظن أنه "جو اليمامة").
قال: إنه درس على مفتي الديار محمد بن إبراهيم رحمه الله, ويقول عنه: هذا باني العلماء والقضاة في هذه البلاد. ويقول: تخرجت في كلية اللغة العربيةعام1378هـ. وقد عرض عليه القضاء في محكمة الرياض فكتب قصيدة إلى الشيخ محمد رحمه الله يستعفيه منه فأعفاه.
كان منافحاً عن اللغة العربية, ويكتب الشعر فيها, وقد أهدى ديوانه إلينا " حصيد الزمن" وأذكر منه قوله في رثاء الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله:
فكم قلتَ في التوحيد رأياً محققاً *** وحلَّلْتَ كتب الفقه بالمنطق السلسِ
توفي الأستاذ عبدالعزيز رحمه الله عام 1434هـ.
وممن جاءتْ بهم الذاكرة أبي عبد المجيد عبدالرحمن بن عبدالله آل عبدالكريم رحمه الله وغفر له الذي حدثني أنه ولد قبل وقعة السبلة بخمس سنين أي عام 1342هـ, كان غفر الله له مهتماً بصحته, حيث قال: منذ أكثر من أربعين سنة لم أترك رياضة المشي, يقول: مرة كنتُ في المغرب, وكانت السماء تمطر, فأخذتُ المظلة, وذهبت للمشي في ساحة الفندق والسماء تنزل بمطر منهمر, كل هذا لئلا أترك هذه الرياضة النافعة.
وكان يحدث عن نفسه رحمه الله أنه -وعمره قد قارب التسعين- يصعد الدرج شفعاً لا وتراً, وكان يكتب الفوائد والحكم التي يقف عليها, ويزود بها من يزوره, وقد أعطاني مجموعة من الأوراق فيها حِكماً وفوائد ونصائح طبّية, كان يقول: كُل الماء واشرب الطعام! ثم يقول هل تعرف كيف يكون ذلك؟ ثم يجيب فيقول: امضغ الأكل جيداً حتى يصبح كالماء, فإنك ستجد المعدة تقول لك شكراً!
كان رحمه الله يكتب دواوينه بخطه الجميل رحمه الله توفي رحمه الله عام 1436هـ, وقد كتب الشيخ سعد الحصين رحمه الله عنه مقالاً نشر بعنوان(أبو عبدالمجيد أستاذ الأجيال).
أختم هذه الذكريات بأنني كنت مرة في مجلس العلامة المحقق أبي سليمان عبدالرحمن العثيمين رحمه الله بعنيزة وكان في المجلس ابن عمه المؤرخ الدكتور عبدالله العثيمين رحمه الله فحدثنا أنه ذهب مرة إلى سوق أشيقر بالرياض فدخل محلاً ليشتري شيئاً منه, وكان البائع فيه من إخواننا من أهل اليمن , والدكتور عبدالله لباسه ومظهره المتواضع لا يُظهر بأنه عالم في تخصصه وأنه من أهل الاطلاع, فقال لصاحب المحل: بكم هذه؟ فقال: بخمسة وثلاثين ريالاً, وقيمتها في نظر الدكتور أقل من ذلك, فقال الدكتور: سآخذها بخمس وعشرين أو بعشرين الشك مني, فقال البائع وكان مثقفاً: فظيع جهل ما يجري! ففطن الدكتور لمقصده وإشارته! فرفع إليه رأسه مكملاً عجز البيت: وأفظع منه أن تدري! فعرف البائع بعد أن بدت عليه علامة التعجب أن الذي أمامه ليس مجرد كبير سن من عوام الناس, فقال: خذها بلا ثمن, فأبى الدكتور عبدالله إلا أن يدفع قيمتها, خرجنا من مجلس الدكتور عبدالرحمن بعد أذان العشاء, فقال الدكتور عبدالله: تناولوا العَشاء معنا, فقلت: أكرمكم الله, بإذن الله عشانا في سدير, فقال: أرض سدير بعد نزول الأمطار ووقت الربيع من أفضل أراضي نجد التي يمكن قصدها؛ فإن أنواع الزهور والأعشاب تخرج بأرضها ما لم أجده في بقية بقاع نجد حتى بلدنا القصيم, فقلت: بإذن الله يأتي الربيع, ونتشرف بدعوتكم , فقال: الشرف لنا.

بقي رجال تستمطر الذاكرة مواقفهم لعل الله يمنّ بفسحة من الوقت؛ لأقيدها في عيد آخر بإذن الله.


كتبه
د.  محمد بن فهد بن عبد العزيز الفريح
عضو هيئة التدريس بالمعهد العالي للقضاء
     







الاثنين، 18 أبريل 2016

يالسمطي قبور الصحابة رضي الله عنهم مُكرَّمة محترمة


يالسمطي قبور الصحابة رضي الله عنهم مُكرَّمة محترمة

 

لقد ساءني كثيراً ما كُتب في صحيفة الجزيرة في عددها(15906) يوم السبت الموافق 9/7/1437هـ تحت عنوان ( يوميات عابر أطلال: من مرابع امرئ القيس إلى منازل حاتم الطائي- الحلقة السادسة عشرة- بقلم عبدالله السمطي) إذ اشتمل  مقاله على أغلاط يجب إنكارها فمنها:

 

1.   ما ذكره في ذهابه لقبر رسولنا صلى الله عليه وسلم وإخباره أنه قرأ الفاتحة أمام قبره عليه الصلاة والسلام بل قرأها أكثر من مرة !! وذكر السمطي أنه لما مر بمقبرة البقيع وهو في السيارة ذاهباً للمسجد النبوي قرأ الفاتحة !!

 

فيقال له هداه الله: هل ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ قرآناً عند قبر من القبور؟ أو جاء عنه أنه إذا مر بقبر قرأ الفاتحة؟

 

وهل جاء عن أحد من الصحابة الكرام رضي الله عنهم أنه قرأ الفاتحة عند قبره صلى الله عليه وسلم أو عند قبر غيره ؟

 

الجواب: أنه لم يأت عن نبينا صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من صحابته رضي الله عنهم قراءة شيء من القرآن لا الفاتحة ولا غيرها عند قبر ولا عند المرور على المقابر كما فعل هذا الرجل.

 

أفلا يسعه ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الاكتفاء بالسلام على الموتى والدعاء لهم؟

 

أم أنه يزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك شيئاً من الخير لم يبلِّغ أمته به؟

 

أم أن الأخ السمطي أدرك شيئاً من العلم لم يدركه الصحابة رضي الله عنهم؟ فلم يعلموا به! ولا عملوه,  وعلِمه هو!! فعمل به؟

 

 قال إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله: (ما علمت أحداً يفعل ذلك) يعني قراءة شيء من القرآن عند القبر, علّق الإمام ابن تيمية رحمه الله على كلام الإمام مالك قائلاً:(فعُلِم أن الصحابة والتابعين ما كانوا يفعلونه), فهل سيقتدي بهم صاحب يوميات عابر أطلال؟ هذا ما أرجوه.

 

وهدي النبي صلى الله عليه وسلم في المسألة واضح بيّن, قال ابن القيم رحمه الله:(كان صلى الله عليه وسلم إذا زار قبور أصحابه يزورها: للدعاء لهم, والترحم عليهم, والاستغفار لهم, وهذه هي الزيارة التي سنها لأمته وشرعها لهم... وكان من هديه صلى الله عليه و سلم تعزية أهل الميت ولم يكن من هديه أن يجتمع للعزاء ويقرأ له القرآن لا عند قبره ولا غيره, وكل هذا بدعة حادثة مكروهة).

 

2.   ذكر الأخ عبدالله السمطي أصلح الله حالنا وحاله ما نصه:(عثرتُ على مكان قمتُ فيه بالصلاة ركعتين في حضرة الحبيب المصطفى), وهذا اللفظ منه(حضرة الحبيب المصطفى) صلى الله عليه وسلم إن كان مقصوده أن الرسول صلى الله عليه وسلم شاهد لصلاته , حاضر لأدائها فهو جهل منه أصلحه الله ولا يقول به أحد من أهل السنة, أما غير أهل السنة فليست هذه بأكبر ضلالهم.

 

وإن كان يقصد بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم القُرب من قبره صلى الله عليه وسلم, فإن هذا قد يكون وارداً لغة, قال الجوهري في الصحاح:(حَضْرة الرجل: قُرْبه وفناؤه) إلا أنه لا فرق شرعاً في الفضل بين مكان ومكان في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم سواء قَرُبَ من مكان قبره صلى الله عليه وسلم أو كان بعيداً ما دام في المسجد إلا الصلاة خلف الإمام مباشرة, والروضة الشريفة , علماً أني لا أعلم دليلاً في جعل الصلاة بالروضة أعظم أجراً, وأكثر ثواباً من بقية مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم, مع أنه قد ثبت في الأحاديث الصحيحة أنها روضة من رياض الجنة, فلا شك في فضلها, ولكن لا أعلم دليلاً يجعل الصلاة فيها أكثر أجراً  وأفضل ثواباً من بقية المسجد.

 

وكان الأولى للكاتب أن يبتعد عن الألفاظ الموهمة التي تجعل كلامه مشابهاً لكلام أهل البدع الذين يزعمون أن الرسول صلى الله عليه وسلم يكون شاهداً معهم, بل وحاضراً لبعض بدعهم كما هو مشهور عنهم, خاصة في احتفال المولد.

 

3.   قال عبدالله السمطي أصلحنا الله وإياه:( ثم خرجنا أنا والدكتور عيد اليحيى ووقفنا عند سور البقيع حيث مقابر الصحابة والمسلمين الأوائل... المقابر مجرد مقابر ترابية ، عليها بعض الحجارة كشواهد، هكذا فقط، لا أضرحة ، لا مزارات، لا نباتات ، لا أشجار، لا لوحات رخامية مكتوب عليها أسماء هؤلاء الصحابة (رضي الله عنهم) الذين أسهموا في نشر الإسلام وتأسيس الدولة الإسلامية الأولى بالمدينة المنورة، هؤلاء الذين رضي الله عنهم في دنياهم وآخرتهم، وبشر بعضهم بالجنة. بعد أن رحلوا لم يكرموا، مجرد قبور ترابية عليها بعض الحجارة... هل كان ينبغي - على الأقل - أن توضع لوحات بأسمائهم حتى على سور البقيع، هنا يرقد هذا الصحابي، أو هذا القائد حتى من وجهة تاريخية ؟!

 

إن الناس لن تتعلق بالأضرحة تماما، لكن على الأقل تعرف من يرقد في هذا القبر أو ذاك.

 

لم تعجبني مقابر البقيع أبدا، ولم يعجبني عدم تكريم هؤلاء الصحابة والمسلمين الأوائل, إن دولا أخرى تصنع مزارات كبيرة لشخصيات أقل منهم ربما في العالم الإسلامي وغير العالم الإسلامي.. فلماذا تأتي قبور الصحابة بهذه الصورة المهينة البائسة، من كرمهم الله في الدنيا ورضي عنهم وبشرهم بالجنة لابد أن يكرموا في قبورهم بعد رحيلهم).

والجواب عن هذا من أوجه منها:

 

أ‌-    لا أدري هل الكاتب يعلم شيئاً عن النصوص الشرعية الكثيرة في تحريم البناء على القبور, وتجصيصها, وإسراجها, ورفعها, والكتابة عليها؟ هذا الذي يظهر من حال الكاتب, و إلا فلا أظن أحداً يعلم الأدلة الواردة في تحريم ذلك ثم يزعم اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وتعظيم الصحابة رضي الله عنهم ثم يطالب بتلك المطالب التي ذكرها صاحب المقال.

 

فمن الأدلة: ما جاء في صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُجصص القبر, وأن يُقعد عليه, وأن يبنى عليه.

 

وأخرج مسلم أيضاً في صحيحه عن ثمامة بن شفي رحمه الله قال : كنا مع فضالة بن عبيد رضي الله عنه بأرض الروم فتوفي صاحب لنا فأمر فضالة بن عبيد بقبره فسوّي ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بتسويتها.

 

وأخرج مسلم أيضاً عن أبي الهياج الأسدي رحمه الله قال: قال لي علي بن أبي طالب رضي الله عنه ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ أن لا تدع تمثالا إلا طمسته ولا قبراً مشرفا إلا سوَّيته.

 

قال ابن القيم رحمه الله:(ونهى صلى الله عليه وسلم عن الكتابة عليها كما روى أبو داود والترمذي في سننهما عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن تجصص القبور وأن يكتب عليها, قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وهؤلاء يتخذون عليها الألواح ويكتبون عليها.

 

 ونهى صلى الله عليه وسلم أن يزاد عليها غير ترابها كما روى أبو داود من حديث جابر أيضاً : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يجصص القبر أو يكتب عليه أو يزاد عليه, وهؤلاء يزيدون عليه سوى التراب الآجر والأحجار والجص .

 

 ونهى عمر بن عبدالعزيز: أن يبنى القبر بآجر وأوصى أن لا يفعل ذلك بقبره

 

 وقال إبراهيم النخعي : كانوا يكرهون الآجر على قبورهم

 

 والمقصود : أن هؤلاء المعظمين للقبور, المتخذينها أعياداً , الموقدين عليها السُّرج, الذين يبنون عليها المساجد والقباب, مناقضون لما أمر به رسول الله صلى الله عليه و سلم, محادُّون لما جاء به, وأعظم ذلك اتخاذها مساجد, وإيقاد السرج عليها وهو من الكبائر).

 

وقال الذهبي رحمه الله:(ولا نعلم صحابياً فعل ذلك) يعني الكتابة على القبور.

 

وقال ابن الحاج رحمه الله في مدخله:(وليحذر من هذه البدعة التي اعتادها بعضهم وهي جعل الرخام على القبور وهي بدعة, وسرف, وإضاعة مال, وفخر, وخيلاء, وكذلك كل ما حواليه, وليحذر من أن يجعل على القبر ألواحا من خشب عوضا عن الرخام, وكذلك يحذر من أن يجعل عليه درابزين إذ أن هذا كله من البدع المكروهة في الشرع الشريف, وقد تقدم صفة القبر على السنة, فكل ما خالفها فهو بدعة مكروهة ... وليحذر مما يفعله بعضهم من نقش اسم الميت, وتأريخ موته على القبر سواء كان ذلك عند رأس الميت في الحجر المعلَّم به قبره ... أو كان النقش على البناء الذي اعتادوه على القبر مع كون البناء على القبر ممنوعاً كما تقدم,  أو كان في بلاطة منقوشة أو في لوح من خشب وأشد من ذلك أن يكون على عمود كان رخاما أو غيره).

 

فهذه بعض النصوص الشرعية, وبعض النقولات عن علماء من مذاهب فقهية مختلفة كلها تبين فساد قول الكاتب, وتُظهِر بطلان طلبه.

 

ثم قوله هداه الله:(إن الناس لن تتعلق بالأضرحة تماماً) كأنه لا مانع لديه أن يتعلق الناس بالأضرحة لكن ليس على التمام!!

 

ولا مانع أن يقال للأخ عبدالله السمطي: هل عندك علم بالمستقبل أن الناس لن تتعلق بالأضرحة؟ وهل اطلعت على الغيب؟ أو على الأقل هل لديك دليل على قولك هذا؟ حتى تكتب للقراء مثل هذا الكلام.

 

 أما بلغك أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بوقوع الشرك في هذه الأمة؟ أما سمعت قوله صلى الله عليه وسلم: « لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى » رواه مسلم,  أما بلغك أن من أنواع الشرك ما هو أخفى من دبيب النمل؟ أما بلغك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  قال وحوله بعض أصحابه (بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً ) متفق عليه، قال مبارك الميلي الجزائري  رحمه الله :( فطلب من أصحابه - وهم في الإيمان أعلى درجة من كل من يأتي بعدهم - أن يبايعوه على اجتناب الشرك).

 

قالها لهم وهم في بلد الإيمان (المدينة النبوية) ولم يقل نحن في بلد التوحيد فلا داعي لها, بل حذرهم من الشرك كبيره وصغيره وخاف عليهم منه ففي مسند الإمام أحمد بإسناد حسن عن محمود بن لبيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر" فهذا الخطاب للصحابة  رضي الله عنهم وأرضاهم وخطاب لمن بعدهم ومع قوة إيمان الصحابة خاف عليهم فكيف بحالنا!

 

بوَّب البخاري رحمه الله في صحيحه باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر , ثم ذكر عن ابن أبي مليكة رحمه الله أنه قال :(أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه ما منهم أحد يقول إنه على إيمان جبريل وميكائيل).

 

قال محسن بن موسى رحمه الله : كنت عديل سفيان بن الثوري إلى مكة فرأيته يكثر البكاء فقلت له : يا أبا عبد الله بكاؤك هذا خوفا من الذنوب ؟ قال : فأخذ عوداً من المحمل فرمى به فقال : إن ذنوبي أهون علي من هذا, و لكني أخاف أن أسلب التوحيد. أخرجه البيهقي في شعب الإيمان.

 

هل تعلم يا أخ عبدالله أنه ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول إذا أصبح وإذا أمسى ثلاث مرات: (اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر , اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر لا إله إلا أنت) أخرجه أحمد, فهذا رسولنا عليه الصلاة والسلام وهو المعصوم يتعوَّذ بالله من الكفر, تربية منه صلى الله عليه وسلم لأمته على الخوف من الكفر والحذر منه .

 

وشيخ المرسلين إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان من دعائه:(واجنبني وبني أن نعبد الأصنام), قال إبراهيم التيمي رحمه الله:(من يأمن من البلاء بعد خليل الله إبراهيم ، حين يقول: رب( اجنبني وبني أن نعبد الأصنام ).

 

ب- قال عبدالله السمطي وفقنا الله وإياه للهدى:(لم تعجبني مقابر البقيع أبداً، ولم يعجبني عدم تكريم هؤلاء الصحابة والمسلمين الأوائل)

والجواب: ليس الأمر والمراد طلب إعجابك هداك الله, بل المطلوب رضى الله  في العمل بشرعه واتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم, وقد مضت الأدلة الدالة على تحرم ما تريده , والنهي عما يحقق إعجابك.

 

ثم إن من عدم تكريم قبور الصحابة رضي الله عنهم تحقيق ما يطلبه السمطي, فالصحابة رضي الله عنهم بذلوا أرواحهم للدفاع عن عقيدة التوحيد , ومحاربة كل ما يؤدي إلى الشرك: ومن ذلك رفع القبور, والبناء عليها, وجعل القبب والمشاهد فوقها, ثم يأتي هذا الصحفي ويريد نسف جهودهم رضي الله عنهم التي بذلوها في قطع وسائل الشرك وإماتة البدع بأن يجعل على قبورهم ما هو خلاف شرع الله, وخلاف ما بذلوا مُهجهم من أجله.

 

إن تكريم الصحابة رضي الله عنهم يكون باتباع منهجهم, والاقتداء بهم, ومحبتهم, والترضي عنهم, ولزوم طريقهم خاصة في تحقيق التوحيد والدعوة, والبعد عن الشرك وقطع الوسائل والذرائع التي تؤدي إليه , لا بالمطالبة بأن تكون قبورهم مزارات ومشاهد وحدائق تزرع فيها الأشجار والنباتات كما أراد الكاتب أصلحه الله.

 

ج- قال السمطي:(إن دولاً أخرى تصنع مزارات كبيرة لشخصيات أقل منهم ربما في العالم الإسلامي وغير العالم الإسلامي.. فلماذا تأتي قبور الصحابة بهذه الصورة المهينة البائسة)!!

 

عجيب هذا المنطق منذ متى كانت أفعال الناس حجة تُردُّ بها أدلة الشرع؟

 

ولماذا لم تجعل عمل المسلمين في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم, وعهد من بعده الصحابة هو الحجة؟ بل لماذا لم تحتج بأن ما رأيته في المملكة العربية السعودية هو الصواب؟ لماذا جعلت تلك الدول التي جعلت القبور مزارات على الحق؟ بل وجعلت عمل دول ليست بمسلمة حجة !! تريد ممن يسير على نهج النبوة أن يتركه ويقتدي بتلك الدول؟

إني أقولها واضحة بينة: إن من مفاخر المملكة العربية السعودية حماية التوحيد, ومحاربة الشرك ووسائله, ومن تلك المفاخر  إزالتها للقباب والمشاهد المحرمة التي كان في مقبرة البقيع وغيرها, ومن رأى صور المقابر التي كانت قبل دخول الحجاز تحت ولاية آل سعود وحالها بعد دخولها تحت ولايتهم حمد الله أن هيأ للحرمين الشريفين حكومة تمحو بفضل الله مظاهر البدع والشرك فجزاهم الله خيراً ونصر بهم دينه, وهم في فعلهم هذا قد قاموا بما أمر الله به, وأمر به رسوله صلى الله عليه وسلم, قال ابن القيم رحمه الله:(يجب عليه -أي إمام المسلمين- أن يهدم هذه المشاهد التي بنيت على القبور التي اتخذت أوثاناً).

 

ولو تُرك الأمر لبعض الجهلة في تحقيق ما يعجبهم في مسألة القبور والأضرحة لحصل الفساد ولوقع الشرك, قال الشوكاني رحمه الله:(وكم قد سرى عن تشييد أبنية القبور وتحسينها من مفاسد يبكي لها الإسلام, منها: اعتقاد الجهلة لها كاعتقاد الكفار للأصنام, وعَظُم ذلك فظنوا أنها قادرة على جلب النفع ودفع الضرر فجعلوها مقصداً لطلب قضاء الحوائج, وملجأ لنجاح المطالب, وسألوا منها ما يسأله العباد من ربهم, وشدّوا إليها الرحال, وتمسحوا بها واستغاثوا, وبالجملة إنهم لم يدعوا شيئاً مما كانت الجاهلية تفعله بالأصنام إلا فعلوه فإنا لله وإنا إليه راجعون...ثم قال رحمه الله: فيا علماء الدين ويا ملوك المسلمين أي رزء للإسلام أشد من الكفر؟ وأي بلاء لهذا الدين أضر عليه من عبادة غير الله؟ وأي مصيبة يصاب بها المسلمون تعدل هذه المصيبة؟ وأي منكر يجب إنكاره إن لم يكن هذا الشرك البين واجباً؟). رحم الله الشوكاني ورحم الله صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم وحمى الله بلادنا من الشرك والبدع والمنكرات وجميع بلاد المسلمين.

 

ولعل عبدالله السمطي ومن معه يشتغلون بما ينفعهم عند لقاء ربهم, فيبذلون جهدهم فيما يقربهم لمولاهم, بدلاً من تتبعهم لأحداث وأمكان وجودها, كمعرفة أن امرئ القيس مات بأنقرة, أو أن الشنفرى هلك مقتولاً في واد بالباحة وتضييع الجهد في تحديد أمكانهم, أو أن القتال الذي وقع بين القبيلة الفلانية والقبيلة الفلانية كان في المكان الفلاني, فالجهل بتلك الأمور وما دار حولها لا يضر, بل يلهي عن التزود للدار الآخرة, وهي ليست من العلوم المطلوبة شرعاً, والله المستعان.

 

 

كتبه

د.  محمد بن فهد بن عبد العزيز الفريح

عضو هيئة التدريس بالمعهد العالي للقضاء