السبت، 19 مارس 2016

(عن معالي الشيخ محمد العبودي حفظه الله أُحدِّثكم)


(عن معالي الشيخ محمد العبودي حفظه الله أُحدِّثكم)


لا تخطئ الأُذن صوته,فهو يشُدُّ السامع بحلاوة منطقه, وجميل لفظه, وعذوبة عبارته, ويأسره بواسع معرفته, وكبير اطلاعه, ووفرة علمه, مع ما حباه الله من خُلُق رحب, وتعامل عذب.

يتفنن في إيراد القصة مع ضبط تام لأحداثها, يُوردها كأنه ينظر إليها, مع أنه قد مرَّ عليها غبار السنين.

 تتقاصر همم دون همته, يمضي ثلاث عشرة ساعة من يومه بين بحث وكتابة وقراءة, زاده الله من فضله.

 نسخ كتباً بيده في سالف عصره , يقيد كل شيء تقريباً بل ويوصينا دائما بأن نكتب كل شيء, وإن غلب على الظن ألا فائدة من كتابته الآن.

ما سئل عن شيء يعرفه فكتمه, بل يضفي على مقدار الجواب ما هو أحلى من الجواب نفسه!

عَيْبةُ علم في التأريخ وأخبار الناس, حوى من شتى الفنون والعلوم, بُلْداني رحّال, لم يبق دولة إلا وداست قدمه  مدنها وقراها إلا دولة خليجية واحدة نزل في مطارها فقط مغادراً لغيرها , وليس هناك من مانع إلا أن الله لم يقدِّر له التِّجْوال فيها.

بصير بأشعار العرب, حافظ للشعر فصيحه وعاميه, أشهد أن الوقت يمر علينا في مجلسه أسرع ما يكون.

ترى وتسمع في مجلسه غفر الله له ما يسرُّ الخاطر, ويفرِحُ القلب, فإن شئتَ سمعتَ حِكماً وأمثالا, وإن شئت ألتقطتَ درراً ولؤلؤا.

 في مجلسه تجد العلم, والأدب, واللغة, والتأريخ, والسير.

في مجلسه تسمع أخبار المسلمين في العالم وما رآه من أوضاعهم, بل وأخبار غيرهم , مع كرم ضيافة, وخدمة وافية. 

في مجلسه ترى التواضع المعهود من مشايخنا فدائماً يطلب من جلسائه أن يتكلموا لا أن يكون هو المتحدث فقط, وكأني بالحاضرين يهمهمون لم نأت إلا لنسمع منك وحدك لا نريد شريكاً لك.

رزقه الله حافظة لاقطة, وذاكرة فائقة, حفظ الله بها علوماً وأخباراً لا تجدها عند غيره, بارك الله له فيها.

وقد قال صاحبنا الشيخ الدكتور الأديب زيد بن سعد الغنام وفقه الله عن معاليه:

هذا العبودي قد زانت مجالسه *** شيخ التآليف والرحالةُ العلم
طاف البلاد لدين الله داعية *** أكرم به عملاً تعلو به القمم
تسنم المجدَ والعلياءُ همتُه *** لا يبلغ المجد إلا من له همم
عبر الأثير سمعنا من نوادره *** قولاً جميلاً ودُرّاً حين ينتظم
أسلوبه الفذ يغري كل ذائقة *** ويبهر الناس حتى من به صمم
مرت عقود وما لانت عزائمه *** وما خبا الفكر والإسهام والقلم
طابت مقاصده فاقت مآثره *** سيذكر العُرْب ما أداه والعجم
إن جئت تبغي كنوزاً من معارفه *** تلقى الحفاوة منه وهو مبتسم
إن الوفاء لمثل الشيخ واجبنا *** يمليه دين وعُرفُ الناس والشيم

حقيقة إنه درة من درر هذا الزمان, ومن نوادر عصرنا, قال الشيخ الزاهد سعد الحصين رحمه الله في مقاله المنشور في صفحات جريدة الجزيرة والذي عنوانه(العلامة محمد العبودي مثلٌ بارز للإنتاج العلمي والعملي) ما نصه: (يسُرُّني في هذه الأسطر أن أضرب مثلاً بارزاً للسّعودي المتميّز بجدّه وهمّته وسيرته العلميّة والعمليّة: معالي الشيخ محمد بن ناصر العبودي (الإداري التّربوي اللغوي المؤرخ...) وقد عرفه أكثر المواطنين بما يذاع من سيرته في السَّفَر تعرُّفاً وتعريفاً بكلّ بلد على وجه الأرض تحتاج مؤسّسات الدّعوة إلى الله التي عمل فيها إلى معرفة أحوال مواطنيها من المسلمين ولو كانوا قلّة لا تكاد تذكر.

ومعالي الشيخ العبودي عالم من الطّراز الأول؛ ضليع في العلوم الشرعيّة وضليع في علوم آلتها، وبوتقة ربّانيّة جمع الله فيها العلم والعمل والمواهب.

طلب العلم على فحول العلماء مثل الشيخ محمد بن ابراهيم والشيخ عمر بن سليم والشيخ عبد الله بن حميد والشيخ صالح الخريصي رحمهم الله جميعاً.

 كان أوّل أعماله: إدارة مكتبة جامع بريدة، ثمّ التّدريس في أوّل مدرسة عصريّة في بريدة، وكانت إحدى (9) مدارس أمر الملك عبد العزيز رحمه الله بافتتاحها في نجد، وكانت مدرسَتِي في شقراء إحداها ولكن تأخّر افتتاحها مع مدرسة الرّياض بضعة أعوام، ولعلّ الخير في ذلك فقد رحّب الأهالي بقدومها بينما ضاق بها أهل بريدة خوفاً من سوء تأثيرها على أولادهم، وزاد خوفهم باستيراد إداريّين ومدرّسين من أهل الحجاز وفيهم الحليق والمدخّن وهو مالم يُعْرف في بريدة من قَبْل.

وكانت وظيفته الثالثة مديراً للمدرسة الثانية في بريدة.

ولما منّ الله على الملك سعود رحمه الله بفتح المعهد العلمي (الدّيني) في الرّياض عام 1370 (وكان وليّاً للعهد ولكن والده الملك عبد العزيز رحمهما الله قد سلّمه دفّة الحكم قبل وفاته بخمس سنين في رواية حمد الجاسر وثلاث سنين في رواية عبد الله فلبي)، ثمّ فَتْح المعهد العلمي ببريدة واختار الشيخ محمد بن إبراهيم تلميذه الشيخ محمد بن ناصر العبودي لإدارته، وزاد عدد هذه المعاهد المباركة على (60) معهداً في الدّاخل والخارج.

وفي عام 1380 منّ الله على الملك سعود رحمه الله بإنشاء الجامعة الإسلاميّة بالمدينة برئاسة الشيخ محمد بن إبراهيم لتعليم المسلمين من خارج المملكة المباركة الاعتقاد الصّحيح والعبادات والمعاملات الصحيحة كما كانت على عهد النّبيّ صلى الله على وسلّم وأصحابه، وأهداها (28) بيتاً من بيوت قصره كانت أوّل مأوى لها، واختار الشيخ محمد بن إبراهيم تلميذه محمد بن ناصر العبودي مديراً لها مع الشيخ ابن باز رحمه الله نائباً للرّئيس في أعلى مرتبتين بالجامعة، وبدأت رحلات العلاّمة الشيخ محمد العبودي إلى أدنى الأرض وأقصاها.

ولما أنشئت الهيئة العليا للدعوة برئاسة الأمير سلطان رحمه الله اختار الأمير سلطان العلاّمة العبودي ليكون يده اليمنى في الهيئة.

 ثمّ اختاره ولاة الأمر أميناً عامّاً مساعداً لرابطة العالم الإسلامي فواصل رَحَلاته العلميّة الدعويّة إلى بقيّة أقطار الأرض، حتى ناهز السّنة التّسعين من عمره المقصور على العلم والتّعلّم والتّعليم.

وتعلّم من مشايخه - زيادةً على مسائل الاعتقاد والعبادات والمعاملات، وزيادةً على لغة القرآن والسّنّة وعلوم القرآن وأصول الفقه ومصطلح الحديث والتّاريخ والسِّيَر - أخلاق العلماء بشرع الله في حركاته وسكناته وسَمْتِه وحديثه، ومع حُبِّه للمرح فلم أره زاد على الابتسام عند روايته أو إنصاته لرواية غيره طُرْفة تعجبه، ولم أسمعه رفع صوته غضباً من قول أو عمل لا يرضيه، ولعلّه أخذ من شيخه العلاّمة عبد الله بن حميد رحمه الله - بخاصّة - المرح والتّسامح ولِيْن الجانب للجميع؛ من يوافقه منهم ومن يخالفه.

 ظلمه بعض الكتّاب الجهلة بشرع الله فلزّوه في قَرَنٍ مع ابن بطوطة المغربي، ولا سواء، فإنّ جُلَّ رحلات العلاّمة العبودي كانت في خدمة دولة التجديد والتّوحيد والسّنّة والدّعوة إلى ذلك , بينما كانت رحلة ابن بطوطة لإرضاء شهوة في نفسه، ويُرْوى أنّ ابن بطّوطة قضى بضعةً وعشرين عاماً في التِّرحال على الدّوابّ والسّفن الشراعيّة فله ما لاقى من عنت، وعليه أنّ أكثر وقته ضاع قبل الوصول إلى غايته في آسيا وأفريقيا، والبرتغال بحثاً عن بحر الظّلمات، وأملى ما ادّعاه من رحلته على محمد بن محمد بن جُزَيّ رحمهما الله في مجلّد واحد، وشكّ الباحثون في وصوله إلى الصّين بل إلى صنعاء مثلاً، ولعلّه خلط بين ما رأى وما رُوِيَ له عن مثل سدّ يأجوج ومأجوج، وأوثق دليل على ذلك كذِبه على ابن تيمية رحمه الله أنه رآه يخطب الجمعة ويقول: إنّ الله ينزل إلى السّماء الدّنيا مثل نزولي درج هذا المنبر، وابن تيمية رحمه الله لا يُشَبِّه صفات الخالق عزَّ وجلّ بصفات المخلوق أبداً بل يُنْكِر على المشبِّهة أشدّ الإنكار، ولم يصل ابن بطّوطة دمشق في روايته إلا بعد سجن ابن تيمية الذي مات فيه، عوّض اللهُ ابنَ تيمية بمقعد صدق عند مليك مقتدر.

أمّا شيخنا العلاّمة العبودي زاده الله من فضله فكانت أسفاره كلّها بالطّائرة فيصل إلى غايته في كلّ أقطار الأرض في ساعات معدودة.

واستمرّت رحلاته نحو نصف قرن، وكتب عنها - عوضاً عن كتاب ابن بطّوطة (تحفة النّظّار) الذي خطّه ابن جُزِيّ رحمهما الله - نحواً من (136) كتاباً - طبِع منها أكثر من (100) كتاب - إضافة إلى (16) في الدّعوة و(30) في اللغة والأدب وغيرها.

ولعلّ أوّل كتاب له طُبِع له: (الأمثال العامّية في نجد - 5 مجلّدات) وأكبرها موسوعته عن بلاد القصيم وعن أُسَر القصيم.

وهو - مع سَمْته وعلمه ووظائف عمله الحكومي التي منحه الله أكبرها منذ عام 1380 ونصف قرن بعده - يأخذ بنهج الرّعيل الأول ممن جمعوا بين العلم والعمل الشرعي والجدّ في الإنجاز وبين مراعاة الفسحة والسّعة في الدّين ما اجتُنِبَت المحرّمات وأُدِّيت الواجبات كما قال عنهم عَلَم شقراء العلاّمة أبو عبد الرحمن بن عقيل زاده الله من فضله.

ولكنّه كان يصبر على حنبليّتي (أَوِيْ) - باللفظ المصري - عندما كنت أردُّ جميله - بإهدائي مؤلّفاته المتميّزة - بإلحاحي على أن تكون الأوّليّة والأغلبيّة لنشر إفراد الله بالدّعاء وغيره من العبادة والنّهي عن صرف ذلك لغير الله، نسأ الله في أثره.

كتبه/ سعد بن عبد الرحمن الحصيّن بمكة المباركة في12/3/ 1435هـ).

حفظ الله صاحب المعالي الشيخ الموسوعي محمد بن ناصر العبودي وجزاه الله خيراً إذ اقتطع جزءاً من وقته ليجلس مع محبيه , ونفع الله بعلومه, وأمده بالصحة والعافية والسلامة.


كتبه
د.  محمد بن فهد بن عبد العزيز الفريح

عضو هيئة التدريس بالمعهد العالي للقضاء

الجمعة، 18 مارس 2016


 الشيخ العلامة عبدالله العنقري رحمه الله وحاشيته الفقهية من المفاخر

  

تلقيتُ هدية من أخي الشيخ الفقيه الوقور أحمد بن عبدالعزيز الجماز, وكانت الهدية من أحب الهدايا إليَّ , وأغلاها عليَّ, إذ هي (حاشية العنقري على الروض المربع شرح زاد المستقنع).

 
وسيكون الحديث من جهتين من جهة الحاشية نفسها, والأخرى عن مؤلفها الشيخ عبدالله العنقري رحمه الله.

 
فالحاشية قد طبعتْ قديماً في ثلاثة أجزاء عام 1375هـ بعد وفاة الشيخ العنقري بمطبعة السنة المحمدية بمصر, والشيخ رحمه الله قد فرغ منها عام 1367هـ, وقد حدثني شيخنا العلامة صالح الفوزان غفر الله له أن حاشية العنقري وُزِّعتْ عليهم, وهم طلبة في السنة الأولى بالمعهد العلمي ؛ ليستفيدوا منها, وتكون من مراجعهم العلمية,  قال الشيخ أحمد الجماز سدده الله عن تلك الطبعة:( في عِداد نوادر الكتب بين طلبة العلم, لايمكن الحصول عليها إلا عن طريق الاستعارة أو التصوير... إضافة لرداءة الطباعة قديماً... مما تسبب في حصول نقص كثير بها, وسقط وتصحيف, وتقديم وتأخير, وتداخل بعض التعليقات في بعض) وصدق غفر الله له, ولذلك قلّت الاستفادة مع نفاستها , فلم يطِب خاطر الشيخ أحمد أن تبقى على تلك الحال, فجرّد فيها العناية, وأظهر الكفاية, فتم تحقيقها على نسختين خطيتين مقارنة بالمطبوع, فكانت النتيجة خروج الحاشية بحلة من أحسن الحلل, وطباعة من أجمل ما يكون, ووقعتْ في ستة مجلدات.

 
 والأهم من ذلك كله: أن الزيادة الموجودة في المخطوط على المطبوع يبلغ تقريباً ثلث الكتاب! وقد أثبت ذلك الشيخ الجماز في تحقيقه جزاه الله خيراً.

ولاشك في نسبة هذه الحاشية للشيخ عبدالله العنقري رحمه الله, وأذكر أني لما اقتنيتُ الكتاب النافع المفيد (المدخل المفصل) للشيخ بكر أبو زيد رحمه الله مرَّ علي نسبة حاشية العنقري لتلميذه(الشيخ محمد بن عبدالمحسن الخيال رحمه الله) كما في المدخل(2/773), فتعجبتُ من ذلك , فكتبتُ بجوارها محل نظر, عازماً على كتابة تعليق يثبتُ أن الحاشية من تأليف الشيخ عبدالله رحمه الله, وكنت قد قابلتُ بعض من صحب الشيخ العنقري, وكان لصيقاً به, فسألته عن إمكانية نسبة الحاشية لأحد تلاميذه, فكان الجزم بأن الحاشية للشيخ, ولما رأيتُ ما كتبه أخي الشيخ أحمد الجماز وفقه الله في إثبات نسبتها حضرني المثل المشهور(لا عطر بعد عروس), ومن أوضح الدلائل على أن الحاشية للشيخ عبدالله ما يلي:

 
1. جاء في آخر الحاشية ما نصه:(أملى ذلك الفقير إلى عفو ربه القدير, جامع هذه الحاشية, عبدالله بن عبدالعزيز العنقري وفقه الله تعالى.
قد وقع الفراغ من تبييض هذه الحاشية ... ضحوة يوم الخميس الموافق أول يوم  من جمادى الأولى من شهور سنة 1367هـ بقلم الفقير إلى الله سبحانه وتعالى, راجي عفو ربه, عبدالله بن إبراهيم الصالح الصانع). ومن اللطائف أن ورد في الحاشية (3/232 تحقيق الجماز) ما نصه (تقرير شيخنا الشيخ عبدالله بن عبدالعزيز العنقري حرسه الله تعالى), وفي(5/26) نحوه.

 
ومن المعلوم أن الشيخ عبدالله رحمه الله لم يكتب شيئاً بيده ؛ لفقده بصره عوضه الله الفردوس, وقد كتبها تبييضاً في حياة الشيخ عدد من تلاميذه منهم: الشيخ محمد الخيال, والشيخ حمود التويجري, والشيخ عبدالله الصانع رحمهم الله.

 
 فكيف تنسب الحاشية لأحدهم دون الآخر؟ ومن العجيب أن النسخة المطبوعة القديمة التي تنسب للشيخ الخيال رحمه الله , هي مطبوعة عن نسخة الشيخ الصانع رحمه الله كما في آخرها (3/454).

 
2. أنه ورد في الحاشية (الطبعة الأولى 1/317 , وفي تحقيق الجماز (2/113) ما نصه:(قلت: وقد ذكر شيخنا الشيخ حسن بن حسين بن علي...), ومن المشهور أن الشيخ حسن(ت/1341هـ) من مشايخ الشيخ العنقري لا من مشايخ الشيخ الخيال رحمهم الله.

 
وجاء كذلك في الحاشية (تحقيق الجماز 3/240) : (قال شيخنا علي..) والمقصود به الشيخ الفقيه علي بن عبدالله بن عيسى قاضي الوشم في زمانه(ت/1331هـ) شيخ الشيخ عبدالله العنقري رحمهما الله.

3. أن العلماء الذين ترجموا للشيخ العنقري رحمه الله أو ذكروه, نصوا أن من آثاره العلمية: حاشيته على الروض, بل لا أعلم أحداً جعلها لغيره إلا ما ورد في المدخل المفصل للشيخ العلامة بكر غفر الله له إفادة من غيره, فمثلاً الشيخ محمد بن مانع رحمه الله(ت/1385هـ) ذَكَرَ في مقاله المنشور في جريدة الندوة في عددها(1390) في 7/2/1373هـ بعنوان( وفاة عالم) أن من مؤلفات الشيخ عبدالله العنقري رحمه الله الفقهية : حاشيته على الروض المربع.

والشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله(ت/1389هـ) أحال إلى حاشيته, كما في الفتاوى(9/72) حيث ورد ما نصه:(وقد جاء في " حاشية الشيخ عبدالله العنقري ص 84 في الجزء الثاني ") وجاء في(12/218):(وهذا الكلام والبيان مذكوران في حاشية الشيخ العنقري).

وكذلك الشيخ عبدالرحمن ابن قاسم رحمه الله(ت/1393) نص أن الحاشية من تأليف شيخه العنقري حيث قال في حاشيته على الروض (1/9): (فإن زاد المستقنع وشرحه وقد رغب فيهما طلاب العلم غاية الرغب، واجتهدوا في الأخذ بهما أشد اجتهاد وطلب ... خدمهما علماء العصر كالشيخ عبد الله أبا بطين، والشيخ عبد الله العنقري، عبد الوهاب بن فيروز بالحواشي مفردة..), وكذلك الشيخ عبدالله البسام رحمه الله في علماء نجد(4/272) نص على أن من آثاره التي خلّفها حاشيته على الروض المربع.

4. أن طريقة الشيخ عبدالله العنقري رحمه الله في الحاشية أنه يذكر أقوال العلماء في المسائل الفقهية المشهورة , قال الشيخ محمد بن مانع رحمه الله في مقاله عن الشيخ واصفاً طريقته في الحاشية:(يذكر المسألة من الروض, وينقل ما كتبه العلماء من غير استدلال ولا تعليل, طلباً للاختصار, كما فعله شمس الدين بن مفلح في الفروع وغيره), وقال الشيخ عبدالله البسام في علماء نجد(4/272): (جمعها من كلام العلماء وبعض تقاريره), وحتى في أجوبته عن بعض الأسئلة سلك الطريقة نفسها فمثلا جاء في الدرر السنية(7/77) ما نصه:(وسئل ... عن فرش المسجد، هل يجوز أخذ شيء منه أو يبقى في موضعه؟ أو يصرف في مصلحة أخرى للمسجد أو لغيره؟
 
أجاب الشيخ عبد الله العنقري: أنقل كلام العلماء وأشير إلى ما هو الراجح عندنا: قال في المقنع وشرحه الإنصاف للمحقق المرداوي، رحمه الله: وما فضل من حصره وزيته، جاز صرفه إلى مسجد آخر، والصدقة به على فقراء المسلمين؛ هذا هو المذهب نص عليه، وجزم به في الهداية، والمذهب، ومسبوك الذهب، والمستوعب، والخلاصة، والوجيز وغيرهم، وقدمه في الفروع وغيره.

 وعنه: يجوز صرفه في مثله دون الصدقة به، واختاره الشيخ تقي الدين. وقال أيضاً: يجوز صرفه في سائر المصالح وبناء المساكن، لمستحق ريعه القائم بمصلحته. انتهى. قلت: ما ذكره شيخ الإسلام هو الصواب، لأنه أسعد بالدليل من غيره).

وكذلك في مسألة انقطاع الوقف ونقله(ينظر:مجموع رسائل وفتاوى الشيخ العنقري, إعداد/الشيخ ناصر السلامة ص324).

فهل يمكن نسبة ما ورد من بعض فتاوى الشيخ التي تماثل منهجه في الحاشية لغيره؟ لكون الشيخ لم يكتبها بيده! هذا مما لا يمكن قوله.

5. أن الشيخ عبدالله رحمه الله لما انتهى من الحاشية سعى لطباعتها, فتولى طباعتها الأمير منصور بن عبدالعزيز رحمه الله, وقد طبعت بعد وفاة الشيخ رحمه الله , وكان مكتوباً عليها أنها من تأليفه, فلو لم تكن له لم يكن ليقر كتابة اسمه عليها أولاً, ولا سعى لطلب طباعتها ثانياً.

ومن نظر في الحاشية عَرَفَ فقه واضعها, وتمكّن مؤلفها, وقد أثنى عليها العلماء, ورجعوا إليها, فوصفها بالمفيدة ابن مانع رحمه الله في مقاله وفاة عالم, وكان الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله يحضِّر منها لدروسه ويقول: (إن العنقري طالت مدته في القضاء؛ لذلك فحاشيته عن علم وفهم وممارسة), وقال الشيخ عبدالله الصانع رحمه الله:(هذه الحاشية المفيدة, والدرة الفريدة), وقال الشيخ إبراهيم بن عبيد آل عبدالمحسن في تأريخه تذكرة أولي النهى والعرفان(5/78) في معرض ثنائه على حاشية الشيخ: (جوهرة الزمان أتى فيها بالعجب العجاب).

قال عمر عبد الجبار في كتابه سير وتراجم بعض علمائنا ص186:(لا يضمك مجلس فيه علماء نجد وطلاب العلم إلا وتسمع منهم الحديث عن العلامة الشيخ عبدالله العنقري, وغزارة علمه , وورعه, وتواضعه, وحلمه, وصبره, وغير ذلك من كريم أخلاقه).
 
وقد أشرتُ في بداية المقال أني سأذكر حديثاً عن مؤلف الحاشية فأقول: هو الشيخ الإمام العلامة الفقيه الفرضي  عبد الله بن عبدالعزيز بن عبدالرحمن العنقري التميمي, ولد ببلدة أخواله (أُثيثية) في 23/7/1290هـ  , ونشأ يتيماً , وكُفَّ بصره وهو في السابعة من عمره, قامتْ على تعليمه عمة له رحمها الله فحفظ القرآن, والمتون العلمية, سافر إلى الرياض طلباً للعلم عام 1311هـ, وأخذ عن علمائها منهم:الشيخ إبراهيم بن عبداللطيف, الشيخ عبدالله بن عبداللطيف, والشيخ حسن بن حسين, والشيخ سليمان بن سحمان, والشيخ سعد بن عتيق وأجازه بجميع مروياته, والشيخ حمد بن فارس وغيرهم, قال الشيخ البسام رحمه الله:(مكث على هذه الحال أحد عشر عاماً, وكان مجداً مجتهداً في دروسه وتعلمه, كما أنه موضع العناية من مشايخه لما توسموا فيه من الذكاء, وما رأوا فيه من الإقبال) ( علماء نجد 4/267).

قال الشيخ العلامة سعد بن عتيق رحمه الله في مطلع إجازته للشيخ عبدالله ما نصه:(قد حضر عندي الشيخ النجيب, والعالم الفاضل اللبيب:عبدالله بن عبدالعزيز العنقري في سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة بعد الألف, فالتمس مني الإجازة بما رويته وأخذته وسمعته من مشايخي من أهل الحديث ... فلما سألني أخونا الشيخ المذكور ... أجبته إلى مطلوبه,وأسعفته بمرغوبه, وأن كنتُ لستُ أهلاً لذلك, ولا من فحول ما هنالك... فلذلك أقول:

وقد أجزت مع التقصير عن دركي *** لرتبة الفضل أهل الإجازات

وأسأل الله توفيقاً ومغفرة *** ورحمة منه في يوم المجازاة ).

وقال عنه الشيخ محمد ابن مانع رحمه الله في مقاله وفاة عالم:( العلامة المحدث الفقيه النحوي ... أخذ العلم عن جماعة...منهم العلامة المحدث الشيخ إسحاق ابن الشيخ عبد الرحمن بن حسن...وكان الشيخ إسحاق يسميه صاحب العمدتين يعني عمدة الحديث للحافظ عبدالغني المقدسي, وعمدة الفقه للإمام موفق الدين ابن قدامة).  
 
وقد رأى الشيخ العنقري رحمه الله في منامه في أول حياته أنه يمشي في طريق يسمى الحسينية في بلدته ثرمداء فقابله رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه قدح مملوءة حليباً فناوله إياه, وقال له: اشرب, فشرب نصفه, فقال له: اشرب, فشرب الباقي. قال ابن بسام في علماء نجد:(وقد أوّل هذه الرؤيا بالعلم الذي تعلمه وتضلع منه), وذكر أنه رأى في المنام الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله وقرأ عليه شيئاً من الفقه والحديث, وكذلك رأى الإمام ابن تيمية رحمه الله.في عام 1321هـ تولى إمامة مسجد ثرمداء, ومهام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, ولّاه الملك عبدالعزيز رحمه الله قضاء منطقة سدير عام 1324هـ وكان يتنقل بين بلدانها الكبار , ثم استقر في المجمعة عام 1326هـ ودخل تحت ولايته القضائية الزلفي والأرطاوية وما جاورهما من قرى, وقد حدثني بعض كبار السن أنهم رأوا الشيخ العنقري رحمه الله أكثر من مرة يقف عند بابه يقضي بين المتخاصمين, فتنتهي المنازعة بقضاء الشيخ, (وكان يؤثر الإصلاح بين الخصمين سيما إذا لم يظهر الصواب, حتى إنه ربما أخر الفصل في القضية أياماً حتى يميل الخصمان إلى الصلح, [قال الشيخ سليمان بن حمدان رحمه الله]:وقد لاحظت ذلك منه مراراً, وكنتُ أقول في نفسي هذا أمر لا ينبغي؛ لأن فيه تعطيلاً للمشاكل بدون حل, حتى وقفتُ على قول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه:(دعوا الخصوم حتى يصطلحوا, فإن فصل القضاء يُحدث بين القوم الضغائن, وأخِّروهم لعلهم أن يصطلحوا) ... فرجعتُ عن قولي وعلمت أن الشيخ على الحق) علماء نجد(4/277).
 
كان الشيخ عبدالله العنقري رحمه الله قد ملئ علماً وعقلاً وحلماً, ولذلك اختاره الملك عبدالعزيز رحمه الله في فتنة الإخوان في ذلك الزمان قال الشيخ عبدالله البسام رحمه الله :(بعث هذا العالم الكبير العاقل الفاهم لأمور الدين والدنيا ليقوم بالوساطة الرشيدة بين الطرفين... وقام.. بأمور هامة كثيرة جداً في مجال السلم والحرب والصلح العام. وإسناد هذه الأمور الهامة إليه تدل على ما له من كمال الثقة من الملك عبدالعزيز رحمه الله...[وقد ] طلبه الملك عبدالعزيز بعد وفاة الشيخ سعد بن عتيق رحمه الله أن يكون مرجعاً في بلد الرياض, وألح عليه فاعتذر, فقبل عذره) علماء نجد (4/269و278).

ظل في القضاء ستة وثلاثين سنة,  طلب منه العلامة محمد بن إبراهيم رحمه الله أن يجيزه فأجازه وقد أثنى الشيخُ العنقري عليه في الإجازة ثناء عاطراً.

كان الشيخ عبدالله رحمه الله له المكانة الكبرى بين علماء زمانه قال الشيخ ابن عبيد في تأريخه(5/78):(كانت النصائح والرسائل الموجهة إلى الأمة باسم العلماء من أئمة هذه الدعوة الإسلامية من علمائها المتأخرين مفتتحة باسمه في جملة أسمائهم إذ يعتبر أنه من أعظم أئمة هذه الدعوة).

وكان له فضل على طلاب العلم إذ سعى رحمه الله في جمع أجزاء المغني لابن قدامة من داخل المملكة وخارجها إذ كانت أجزاؤه مفرَّقة لا توجد منه نسخة كاملة بأجزائها, فجمعها وأمر نخبة من طلاب العلم من أصحاب الخطوط الجميلة بنسخها, فلما نسخوا نسخة كاملة بعثها بها إلى الملك عبدالعزيز رحمه الله لتطبع, فأمر الملك بطباعتها.

كانت له مكتبة حافلة بالكتب النادرة, ونفائس المخطوطات, وله تعليقات على نونية ابن القيم, و تلخيصاً للفواكه العديدة كتاب ابن منقور رحمه الله, وكان قد عزم على وضع تأريخ يجعله ذيلاً على تأريخ ابن بشر رحمه الله بإشارة من الملك عبدالعزيز رحمه الله, لكن توفي قبل ذلك أن ينجز فيه شيئاً رحمه الله, وذُكِر أنه قام بإملاء بعض مواده على تلميذه عبدالرحمن الناصر صاحب تأريخ عنوان السعد والمجد, قال ابن عبيد في التذكرة (5/79و89) :( وكان يعتزم إصدار تأريخ لنجد في الفترة الوسطى والأخيرة, وبينما هو يجمع المراجع ويسجل الخطوط الأولى إذ وافاه أجله المحتوم على إثر مرض استمر قريباً من أربعة أشهر).

 وللشيخ العنقري رحمه الله رسائل كثيرة مبثوثة أكثرها فيما جمعه العلامة عبدالرحمن ابن قاسم في الدرر, وقد أهدى إليَّ الشيخ ناصر السلامة جزاه الله خيراً مجموع ورسائل وفتاوى الشيخ عبدالله العنقري, وقد ضمَّنه رسائل للشيخ لم تنشر من قبل.

وكان الشيخ العلامة عبدالله بن حميد يُشبَّه بالشيخ العلامة عبدالله العنقري رحمهما الله. 

قال الشيخ إبراهيم بن عبيد رحمه الله عن الشيخ العنقري:(رأيته يطوف بالبيت الحرام في آخر حجة حجها قدس الله روحه, وقد بلغ من الكبر عتياً وأرهقته الشيخوخة. فرأيت فاضلاً زكياً , يعلوه الوقار, وقد نحل جسمه, وضعفت بنيته, ومع ذلك فإنه يؤدي العبادة كشاب قوي, قد ابيض شعر لحيته وما كان يصبغ بالحناء ولا بغيره. كان طويل القامة فيه احدداب, وعليه هيبة العلماء, وسيماء الأتقياء) تذكرة أولي النهى والعرفان(5/78).
 
اشتكى الشيخ رحمه الله من مرض كان في بطنه وعندما سافر للرياض في الصيف اشتد عليه المرض فأشار عليه الملك عبدالعزيز بالسفر إلى لبنان للعلاج, فأجاب : بأنه سيعود إلى المجمعة إن كان كتب الله لي عافية وإلا يتوفاني عند أبنائي. رجع إلى المجمعة وبعد أشهر توفي رحمه الله, وفي ليلة وفاته: طلب من ابنه عبدالرحمن أن يوجهوا وجهه للقبلة وهو على فراشه, وقال له: نَمْ قريباً مني, وكان في أول الليل يشعر بحشرجة في صدره, وظن الابن أنها حشرجة الموت, وفي آخر الليل هدأت , وبعد أذان الفجر استأذن الابن في أن يصلي في المسجد أو بجانبه؟ فقال الشيخ: اذهب للمسجد, ولا تتأخر بعد الصلاة. ثم جاءت زوجة ابنه عبد الرحمن بالتراب لكي يتيمم به الشيخ, فأجلسته, وأسندته إليها, ثم تيمم الشيخ وصلى الفجر, وذكرتْ غفر الله لها وللشيخ أنه أدى صلاة الفجر, وكانت تسمع قراءته, فلما فرغ من صلاته, استأذنته في أن تضعه على فراشه, فقال لها: انتظري قليلاً, ثم بلع ريقه, وفاضت روحه, رحمه الله, وكان ذلك في يوم الاثنين 4/2/1373هـ  وقد بلغ من العمر اثنتين وثمانين سنة, وستة أشهر, وعشرة أيام.

  غفر الله للشيخ عبدالله ورضي عنه, وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء وأوفاه, وجمعنا به ووالدينا في الفردوس, وشكر الله للشيخ أحمد الجماز هديته التي حرَّكت القلم لكتابة هذا المقال .

 
كتبه/

د.  محمد بن فهد بن عبد العزيز الفريح

عضو هيئة التدريس بالمعهد العالي للقضاء