الأربعاء، 17 يونيو 2020

سماحة الشيخ عبدالله بن حميد عالم تمنيتُ إدراكه!

كتاب "علماء نجد" للشيخ عبدالله البسام رحمه الله, من أمتع الكتب التي قرأت فيها عن سير العلماء وغيرهم في وقت مبكر؛ إذ كان الكتاب في مكتبة الوالد حفظه الله ومتعه بالصحة والعافية, وما زال كتاباً لامعاً جزى الله مؤلفه خيراً, وحين صدرت الطبعة الثانية منه حرصتُ على اقتنائها, وفيها قرأت تراجم لم تكن في الإصدار الأول؛ لأنهم كانوا في الغالب أحياء وقت طباعته,

وكان من الأعلام الذين وردت سيرتهم في الطبعة الثانية: سماحة الشيخ العلامة عبدالله بن حميد رحمه الله الذي كان محل إعجابي وتعجبي مما أسمع من كبار السن عنه وعن فضله ودهائه وذكائه وفطنته وعلمه وحفظه, ولما قرأت ما سطره الشيخ البسام فرحتُ بتلك الحروف, 

وحين ذكر مقولة الملك الصالح عبدالعزيز آل سعود رحمه الله -الذي قرت به أعين أهل التوحيد والسنة- عن الشيخ عبدالله وهي قوله: (لو كنتُ جاعلاً القضاء والإمارة جميعاً في يد رجل واحد لكان ذلك هو الشيخ عبدالله بن حميد), 

علمتُ أن ثمت علوماً في سيرة هذا العالم لم تخرج بعد, وقد ذكرني قول الملك عبدالعزيز بقول الذهبي عن الإمام الأوزاعي رحمهم الله جميعاً إذ قال:(كان يصلح للخلافة), 

(وقال ابن خراش: بلغني عن أحمد بن حنبل أنه قال: لو قيل لي اختر للأمة رجلاً استخلفه عليهم، استخلفت سليمان بن داود الهاشمي).

الشيخ عبدالله بن حميد رحمه الله كان ملئ السمع والبصر في زمانه, وقد خرجتْ كتب تناولتْ مسيرته وسيرته على فترات متفرقة, 

ومن أجودها: كتاب "تاج القضاة في عصره" أعده سليمان بن محمد العثيم, 

وكتاب "الشيخ العلامة عبدالله بن حميد كما عرفته" للشيخ محمد بن ناصر العبودي, 

وكتاب محمد بن أحمد سيد أحمد عن الشيخ عبدالله غفر الله لهم جميعاً, 

ولكل واحد من هذه الكتب منهج خاص, واهتمام لجوانب من سيرة الشيخ مختلفة, وقد عدلتُ عن تقييم الكتب المكتوبة عن الشيخ أو المقارنة بينها, وإنما قصدتُ التنبيه إلى الأجود في نظري من غير إنكار لجهد كل من كتب عن الشيخ رحمه الله وجزاهم عن جهدهم خيراً.

 وتلك الكتب قد حوت أحوال عالم من أجل وأكبر علماء العصر كان له في التعليم والتربية والتدريس والإفتاء والقضاء والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصح للراعي والرعية والسعي في أعمال الخير الحظ الوافر.

وقد يسر الله أن قُدِّمتْ رسائل علمية عن فقه الشيخ وأقضيته, وجهوده في تقرير العقيدة والتوحيد, والتربية والإصلاح والدعوة.

 فكان من أولى من تكتب ترجمته, وتنشر سيرته, وتعرف طريقته, ويستفاد من تجاربه, وما حوته أقضيته ورسائله والقصص عنه من علم وعقل, وفراسة ورسوخ, مع كرم ظاهر, ولطف كبير, 

حدثني الشيخ عبدالعزيز بن أحمد السلمان متعه الله بالصحة والعافية أن الشيخ عبدالرحمن العباد من طلابه بالرياض وهو أهل المحمل قدم على ناقته قاصداً الشيخ عبدالله لما كان قاضياً بسدير للسلام عليه, فأولم له الشيخ وليمة, وأكرمه وأحسن ضيافته, وقد كان الشيخ عبدالعزيز السلمان حفظه الله ضيفاً مدة من الزمن في منزل سماحته رحمه الله إبان دراسته في المدرسة السعودية بالمجمعة.

وسماحة الشيخ رحمه الله كان محل التوقير والتقدير من العلماء والأمراء والخاصة والعامة, وهذا مشهور معروف, 

فقد حدثني الشيخ إبراهيم العوهلي - غفر الله له - أن وليمة دعي إليها الملك خالد وسماحة الشيخ عبدالله بن حميد رحمهما الله, وكانت سيارة الملك خالد متقدمة على السيارة التي فيها الشيخ عبدالله بن حميد فلما قرب وصولهم إلى المقر المعد لها كان جزء من الطريق لم يُرصف بعد , فأمر الملك خالد سائقه بالوقوف وجعل سيارة الشيخ عبدالله تمضي أمامه وقال: (لا نتقدم على سيارة الشيخ فنثير عليها الغبار بل هو الذي يتقدم علينا).

ومن محبتي للشيخ عبدالله رحمه الله أن ذهبتُ مع أحد الزملاء الكرام إلى لقاء عدد ممن كان لهم صلة بالشيخ, وذلك عام 1425هـ, بل ودخلنا إرشيف بعض المجلات والصحف بعد تنسيق مسبق  نطلب المقالات التي كتبت عنه بعد وفاته, فوقفنا على عدد كبير منها, ولما رأيت لطف القائم على الإرشيف في إحدى الصحف طلبت ما يتعلق بحادثة الحرم في غرة عام 1400هـ لأجد تصريحات للشيخ عبدالله رحمه الله وبقية العلماء حول تلك الحادثة المفزعة حفظ الله بلادنا من كل سوء ومكروه.

وقد كان بعض من التقينا به قد كتب كتابة عن الشيخ وسلَّم إلينا ما كتبه, وكان ممن جلسنا إليه الشيخ الأديب الوقور راشد بن خنين رحمه الله فأعطانا قصيدته في الشيخ عبدالله وقال لنا: لم تنشر من قبل ولم أعطها أحداً, فكان لقاؤنا سبباً في إخراج تلك القصيدة, وقد نشرتها في مقال لي عن الشيخ راشد رحمه الله.
ونصها:
أشمس الكون كدرها كسوف  ***  أم البدر المنير به خسوف
أم الشيخ الجليل قضى لنحب   ***  وكل الناس تدركهم حتوف
وموت العالم النحرير ثلم       ***  ولا يقوى على السد الألوف
رئيس للقضاء بنا تقضى        ***  وقد أودى به مرض مخوف
رصين الرأي ذو علم وحلم    ***  مهيب ثابت حبر ألوف
طويل الباع في الفتوى إمام    ***  بنشر العلم مهتم شغوف
يغار لدينه ويذود عنه     ***  وبالحسنى على خصم ينوف
ويلقي الدرس في حرم فيصغي ***  فئام الناس أقصاهم وقوف
تلقاه الإله بفيض عفو          ***  وجنات بها تدنو القطوف
ونرجو ربنا خلفا تقياً          ***  له قلب عن الأهوى عزوف
وأمر الله ليس له مرد           ***  رضينا بالذي يقضي الرؤوف

وكان ممن كتب عن الشيخ عبدالله: الشيخ عبدالرحمن السدحان رحمه الله وقد نشرت ما كتبه في مقال لي عنه  رحمه الله,

وكان ممن كتب كذلك شيخنا الجليل صالح الفوزان حفظه الله وهذا نص ما كتبه:

(الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد كما يعرفه الجميع

هو أبو محمد: عبد الله بن محمد بن حميد، ولد ونشأ في مدينة الرياض وتعلم على علمائها.

هذا العالم الرباني من خيرة العلماء الذين تخرجوا على علماء هذه البلاد المباركة. فهو عالم جليل متبحر في علم العقيدة وعلم التوحيد وعلم النحو واللغة العربية وعلم الأصول، وله اطلاع واسع على أحوال العصر وأهله. هو مدرس ناجح. وهو قاض عادل وهو محتسب آمر بالمعروف ناه عن المنكر. وهو ناصح لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم. لا تأخذه في الله لومة لائم. وهو من أئمة الفتوى ومن أئمة الدعاة إلى الله على بصيرة. قام بالأعمال الجليلة قاضياً في الرياض. ثم في سدير. ثم في القصيم. ثم رئيساً للإشراف الديني في المسجد الحرام, بل هو المؤسس له. ثم رئيساً لمجلس القضاء الأعلى.

لقد عرفته من صغري وتتلمذت عليه بعض الوقت, وحضرت الكثير من دروسه ومحاضراته فاستفدت منه كثيراً كما استفاد منه خلق كثير.

أعطاه الله الهيبة والإجلال والمحبة في قلوب الناس. وجعله محل الثقة عند الراعي والرعية.

كان متواضعاً في ملبسه ومجلسه ومخالطته للناس, يأنس به جليسه, ويستفيد منه تلميذه ومن يسأله، كان متحرياً للدليل في فتواه وفي قضائه بين الناس. وفيما يأمر به وينهى عنه. لا تأخذه في الله لومة لائم, كان إماماً في العلم قدوة في الخير وقوراً محترماً, يستحيى منه ويهاب وإن كان متواضعاً قريباً من الناس.

فرحمه الله رحمة واسعة وأصلح عقبه وذريته. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
وكتبه تلميذه:
صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان - عضو هيئة كبار العلماء)

وكان ممن التقيتُ به مع صاحبي: الشيخ الوقور صالح بن عبدالعزيز الغصن حفظه الله وكان من ألصق الناس بالشيخ, ومن أكثرهم صحبة له في حله وترحاله وفي عمله, ولما دفع إلينا ما كتب طلب أن نقرأ عليه ما كتبه, وما أن قارب صاحبي النهاية حتى رأيت دموع الشيخ صالح تتحدر, ولا لوم فالأحرف صادقة تجلب ذلك, لاسيما أن المفقود عظيم القدر في الفؤاد,

وهذا نص ما كتبه الشيخ صالح الغصن حفظه الله: (كان سماحة الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد رحمه الله شغوفاً بالعلم وتدريسه ونشره بين الناس, وأحب أوقاته إليه وأسعدها إذا كان في مجلس علم.

حببت إليه القراءة, ولا يقتصر على نوع معين وفن خاص بل يقرأ في الحديث والتفسير والفقه والأدب والشعر والتاريخ وغيرها.

كان الكتاب رفيقه في الحضر والسفر وحتى في المستشفى وهو يعاني قسوة المرض لم يترك البحث والقراءة والتعليق.

سافر إلى أمريكا مرتين لتلقي العلاج وكنت معه في تلك الرحلتين وأخذنا معنا نمادج من الكتب في التفسير والفقه والأدب والتاريخ.

قرأت عليه - رحمه الله - مقدمة كتاب التسهيل في تفسير القرآن لابن جزي ومرت علينا عبارة: (بحرمة النبي الأواه), فأملى علي الشيخ تعليقاً كتبت نصه على حاشية الكتاب قال: 

(هذه من الألفاظ المبتدعة, فإنه لا يسأل الله بحرمة أحد ولا بجاهه, وإنما يسأل بما شرعه لعباده من الدعاء بأسمائه وصفاته), 

وفي موضع آخر: قال ابن جزي في المقدمة الأولى عن مصحف علي ابن أبي طالب أنه لو وجد مصحفه لكان فيه علم كبير، فأملى علي الشيخ - رحمه الله- تعليقاً على هذه العبارة: بأن فيها نظراً فإن الله حفظ القرآن وصانه عن الضياع، إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون.

وذكر ابن جزي في المقدمة الثانية قوله: (والمؤمن في الشرع المصدق بهذه الأمور).
فكتبنا تعليقا ً على هذه بقوله - رحمه الله - (لا يكفي مجرد التصديق في الإيمان بل لابد مع ذلك القول والعمل كما عليه أهل السنة والجماعة وكما دل عليه القرآن).

 وكان من جملة الكتب التي معنا في أمريكا رحلة ابن بطوطة قرأنا منها مواضع كثيرة, وكان مما ذكره ابن بطوطة أنه رأى شيخ الإسلام ابن تيمية يعظ الناس في المسجد الجامع, وأن من جملة كلامه أن الله ينزل إلى سماء الدنيا كنزولي هذا.

فعلق عليه سماحة الشيخ رحمه الله بقوله : (ليس هذا بصحيح ولا يصح نسبته إلى ابن تيمية, فإن ابن تيمية من أشد الناس نفياً لمشابهة الله بخلقه، وكتبه موجودة مطبوعة في متناول كل أحد كشرح حديث النزول, وقد قرر فيه وفي غيره أن الله ينزل إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر نزولاً حقيقياً لكن الله أعلم بكنهه وكيفيته, وإنما هو نزول يليق بجلاله كسائر الصفات).

هذا أنموذج من قراءة الشيخ عبد الله وتعليقاته على ما يقرأ عليه وما يحتاج إلى تعليق أو تنبيه.

 كما أن له اطلاعاً على كتابات المستشرقين, وينقل عنهم في كتبه ورسائله عبارات كثيرة, مما فيه اعتراف بفضل الإسلام وعظمته, وسمو تشريعاته, مروراً بقول الشاعر:

مناقب شهد العدو بفضلها *** والفضل ما شهدت به الأعداء

ويقول في أحد كتبه :(ولسنا والحمد لله في حاجة إلى شهادة هؤلاء وأمثالهم بفضل الإسلام وعلو مكانته, ولكن ذكرنا هذا لما قصر أهله في فهمه والعمل به وعرف منه أعداؤه ما لم يعرفه بعض بنيه).

وأحياناً يورد شبه المستشرقين وحقدهم على الإسلام والمسلمين حتى يرد عليهم وينفر من مقالتهم وسمومهم, وكان لا يحب من الناشئة الذين لم يضطلعوا بعلوم العقيدة أن يقرؤوا كتب المستشرقين لئلا يقعوا في الشك والحيرة.

بالنسبة لوسائل الإعلام فهو يقرأ في الصحف السعودية, وبعض المجلات الخارجية, ويتابع أحداث العالم, ويكتب أيضاً في الصحف والمجلات, وينتقد بعض الكتابات المجانبة للصواب, وله في ذلك باع طويل, ورأي حصيف, وفي الإذاعة كان له مشاركة جيدة في برنامج نور على الدرب, وفي أيام المواسم في رمضان, وأيام الحج وغيرها.
 وله دروس وفتاوى يحضرها جمع غفير في ساحة الحرم.

أما جهاز التلفزيون فلم يكن في منزله ولا يحبه بل يحذر منه.

وكان له ورد في الليل, ويكثر من تلاوة القرآن, وكان ختمه للقرآن متفاوتاً أحياناً لسبعة أيام, وأحياناً لأقل أو أكثر حسب الوقت والعمل.

وكان يعطف على المساكين, ويعرف لأهل الفضل فضلهم, ولأهل القدر قدرهم, ويسعى في إيصال النفع إلى الناس بالمال والجاه ويحرص على إصلاح ذات البين, وكان وفياً لأصحابه ومن حوله, وكثيراً ما يردد هذه الأبيات:

ومن شيمي أن لا أفارق صاحبي *** وإن ملني إلا سألت له رشدا
وإن دام لي بالود دمت ولم أكن *** كآخر لا يرعى ذماما ولا عهدا

وكان يعجب من وفاء الخليفة سليمان بن عبد الملك أنه مع خلافته واحتياج الناس إليه يردد هذه الأبيات ويقول نحن أولى من سليمان بن عبد الملك.

وأختم هذا بما حدثنا به شيخنا رحمه الله في أيامه الأخيرة من الدنيا وهو على سرير المرض معلقاً أمله ورجاءه بربه, 

وقال ما معناه: بأنه شب على الفطرة, وقضى عمره في العلم, والتدريس, والقضاء, والنصح والإصلاح, وأنه يرجو من الله حسن الخاتمة, وصار يتكلم على حديث جابر رضي الله عنه أن رسول الله - ﷺ - قال: «من لقي الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة، ومن لقي الله يشرك به شيئاً دخل النار». 

نسأل الله للجميع الثبات على الإسلام والوفاة على الإيمان), انتهى ما سطره الشيخ  صالح الغصن جزاه الله خيراً.

إن السَّيْرَ في سيرة هذا العالم يزيد في التبصر والتعقل والصبر وحسن النظر بإذن الله, ولا شك أن عموم سير الصالحين ومن مضوا في مطاوي الأيام وقراءتها والاعتناء بها خصوصاً سير من كان في زمننا المعاصر مما تثري المرء خبرة وعلماً وتشحذ همته, ويتعرف منها على قدره, 

قال أبوحنيفة رحمه الله:(الحكايات عن العلماء أحب إليَّ من كثير من الفقه؛ لأنها آداب القوم), 

وكثير من النفوس تميل إلى الأخبار والتاريخ وتجد لذة لذلك, قال ابن الجوزي رحمه الله:
(واعلم أن في ذكر السير والتواريخ فوائد كثيرة، أهمها فائدتان، أحدهما: أنه إن ذكرت سيرة حازم ووصفت عاقبة حاله علمت حسن التدبير واستعمال الحزم، وإن ذكرت سيرة مفرط ووصفت عاقبته خويت من التفريط فيتأدب المسلط، ويعتبر المتذكر، ويتضمن ذلك شحذ صوارم العقول، ويكون روضة للمتنزه في المنقول.

والثانية: أن يطلع بذلك على عجائب الأمور وتقلبات الزمن، وتصاريف القدر، والنفس تجد راحة بسماع الأخبار.

وقال أبو عمرو بن العلاء لرجل من بكر بن وائل قد كبر حتى ذهب منه لذة المأكل والمشرب والنكاح: أتحب أن تموت؟ قال: لا، قيل: فما بقي من لذتك في الدنيا، قال: أسمع بالعجائب).

قال إبراهيم الحربي رحمه الله:(سمعت بشر بن الحارث يقول: حسبك أن أقواماً موتى تحيى القلوب بذكرهم, وأن أقواماً أحياء تقسو القلوب برؤيتهم).

فما ألذ سير العلماء الصالحين, ومعرفة مكابدتهم للحياة, وكيف أمضوا أعمارهم, واستغلوا أوقاتهم, وتعاملوا مع أهل زمانهم, فرحم الله علماء الإسلام وصالحيهم وجميع المسلمين, وأرجو أن يتوافق الذين كتبوا عن الشيخ عبدالله بن حميد رحمه الله فتجمع كلها في مجموع واحد, سائلاً الله أن يغفر للشيخ عبدالله وأن يجمعنا به ووالدينا في الفردوس.

وكتب
د. محمد بن فهد بن عبدالعزيز الفريح
عضو هيئة التدريس بالمعهد العالي للقضاء
١ / ١١ / ١٤٤١هـ

الاثنين، 25 مايو 2020

أتت بهم الذاكرة في يوم عيد (6)


أتت بهم الذاكرة في يوم عيد (6)

ذكَّرني عيد هذا السنة(1441هـ) بخطاب وجّهه إليَّ الشيخ الزاهد سعد الحصين رحمه الله من جدة - صباح الثلاثاء- 2 / 10 / 1435 هـ ونصه(من سعد الحصين إلى أخي في الدين والدعوة على منهاج النبوة أبي عبدالله د.محمد الفريح نصر الله به دينه, وتقبل الله منه ومن والدينا وإخواننا وبقية الأهل صالح الأعمال, وجعل أيامهم القادمة أعياداً سعيدة بطاعة الله تعالى والدعوة إلى سبيله على بصيرة.
وعادتنا الهرب من العيد وعاداته الاجتماعية, ثم سنعود إن شاء الله إلى مكة بعد يومين أو ثلاثة -بعد الزحمة- , سلامنا ودعاؤنا للوالدين والإخوان والأهل جميعاً بدون عدد (لأن العدد خاص باللمون) في مصر, ونراكم إن شاء الله على خير حال).

انتهت أحرف الخطاب, ورحم الله يداً كتبته, وروحاً بالمحبة أرسلته, أقول ربما مع هذا الوباء لم يحتج شيخنا رحمه الله أن يفارق منزله في حي العوالي بمكة إلى جدة هرباً من بعض العادات الاجتماعية التي لربما أرهقته حساً ومعنى, بل لربما وافقت جملة من تلك القرارات الاحترازية هوى شيخنا رحمه الله وما تميل إليه نفسه, ومن لطف الشيخ رحمه الله في مراسلاته إليَّ أنه أراد تسليتي لَّما أحس بتأثري من تزايد مرضه الذي ألزمه جهاز الأكسجين- وهو الرجل اللَّمَّاح-  فكان في خطاباته الأخيرة التي أرسلها والتي سبقت وفاته بأيام ما يسليني بها  منبهاً على قرب أجله, ويجعل فيها شيئاً من الذكريات فمثلاً, كتب إلي خطاباً صباح يوم الخميس الموافق 26 / 2 / 1436هـ أي قبل وفاته بأسبوع إذ توفي رحمه الله الخميس الذي يليه في 3 / 3 / 1436هـ, ومما جاء فيه(أقول:ما داما لقيا الله وهما أحرص مني على حياة -يعني بذلك رجلين توفيا قبله بأشهر يسيرة وقد أثنى عليهما وأحبهما- فإليك بعض المُلَح من والدنا الأخ صالح قبل أن ألحق بهما:
 كان لوالدنا الأخ إبراهيم جَدَّة يرأف بها, ويتقرب إلى الله منذ صغره بالبر بها, ومرة حمل والدنا الأخ صالح على ظهره رأفة به من الرمضاء بين بيت خالي رحمه الله في باب العطيفة(بين جنَّة خُبْزه وجنة الزِّرعي), فلم يخطر ببال والدنا صالح من محفوظه غير هذا البيت يترنم به طول الطريق:
ليت العجائز في حبل معلقة *** تحت الثريا وذاك الحبل ينصرم).

فالشيخ سعد رحمه الله يحكي هذا الموقف الحاصل بين أخويه إبراهيم وصالح رحمهما الله, فإن الشيخ إبراهيم كان قد حمل أخاه صالحاً على ظهره, كما كان يفعل مع جدته إذا احتاجت لذلك, ولم يكن يقصد الشيخ صالح من ترنمه بذلك البيت أن ينصرف إلى أقرب العجائز إلى أخيه والتي حل محلها هذه المرة, وإن كان السياق يدل على ذلك, بل هو بيت عرض في ذهنه فرفع صوته مترنماً به.. إلى آخر ما سطره الشيخ من مواقف وملح مما ذكرها في خطاباته رحمه الله.

في عام1427هـ منَّ الله علي بالحج ويسر أمره فكنتُ في مخيم سماحة شيخنا العلامة صالح بن محمد اللحيدان متعه الله بالصحة والعافية وتقبل مني ومنه, وكان معنا شيخ وقور له مهابة, قليل الكلام, ملازم الصمت, حتى ربما بدأ المجلس وانقضى ولم يتكلم بكلمة,  ومكانه في المجلس معروف , وقد كانت له المنزلة العالية عند شيخنا صالح اللحيدان, ولا غرو فهما صديقان وزميلا دراسة وعمل ومتصاحبان منذ عقود, فقد كان زميلاً للشيخ صالح في الدراسة, كما كان نائباً له لما كان رئيساً لمحكمة الرياض, ثم زميلاً في مجلس القضاء الأعلى فهيئة كبار العلماء, وقد رأيت شيخنا صالح اللحيدان وهو رئيس مجلس القضاء الأعلى يخرج بالمعاملات حاملها بيده؛ ليتدارسها مع زميله وصاحبه وصديقه في مكتبه, حين كنتُ أتردد عليه لأقدم الإعفاء من منصب القضاء, وقد ولد هذا الشيخ الوقور رحمه الله سنة 1344هـ, وتدرج في التعليم, والتحق بكلية الشريعة وتخرج فيها عام 1379هـ.

وبعد تخرجه تم ترشيحه للقضاء، وكانت البداية في محكمة الدمام, ثم انتقل منها إلى محكمة الرياض، وعين مساعدًا لرئيسها سماحة الشيخ صالح اللحيدان، ثم أصبح رئيسًا للمحكمة عام 1390هـ في مرتبة رئيس محكمة تمييز، وعضوًا غير متفرغ في مجلس القضاء الأعلى، وفي عام 1407هـ عين عضوًا دائمًا في مجلس القضاء الأعلى، واستمر في خدمة المرفق القضائي تأصيلاً وتقريراً وتطويراً مع النخبة التي كانت تعمل تلك السنين, وفي عام 1413هـ  رشح أن يكون عضوًا في هيئة كبار العلماء, فاستمر في عضويتها إلى عام 1430هـ, وقد كان محل ثقة العلماء وولاة الأمر, وقد اشترك في عدد من اللجان, منها: لجنة مكونة منه ومن الشيخ بكر أبوزيد رحمهما الله للوقوف على ميقات ذات عرق وقد فعلا ذلك في عام 1414هـ شهر ربيع الأول.

وقد كان مكافحاً صابراً جاداً حكيماً ذا رأي, تحدث عنه الشيخ الوقور سليمان المهنا رئيس المحكمة العامة بالرياض سابقاً في مقال فقال:(رحم الله فقيدنا وشيخنا سماحة الشيخ محمد، رئيس المحكمة الكبرى بالرياض، عضو هيئة كبار العلماء، عضو مجلس القضاء الأعلى (سابقاً) الذي رحل عنَّا يوم الأربعاء 3 / 11 / 1438هـ  أسأل الله أن يغفر له ويرحمه، وأن يُسكنه فسيح جناته، وأن يُنزله منازل الأبرار.

عرفتُ الشيخ -رحمه الله- منذ عام 1388هـ حينما كنت ملازماً قضائياً في محكمة الرياض، وكان الشيخ وقتها مساعداً لرئيس المحكمة سماحة الشيخ صالح بن محمد اللحيدان متَّعه الله بالصحة والعافية.

تدرَّبتُ على يده سنة كاملة، أجلس في مكتبه بجانبه، أُلاحظ طريقته، وأستمع إلى توجيهاته، وأكتب ما يُمليه عليَّ من دعوى المدَّعي وإجابة المدَّعى عليه، ويكلِّفني بنظر بعض القضايا، ويُشرِف على عملي، ويوجِّهني بما يراه صوابا.

كان -رحمه الله- رجلاً مهيباً رصيناً عاقلاً بعيد النظر، وكان مع قوّته وما منحه الله من الهيبة حليماً كريما، تتجادل بين يديه الخصوم فيترك لهم المجال وحرية الكلام ما دام ذلك داخلاً ضمن حدود الشرع والنظام.

كان يجلس للخصوم جلسةً ملؤها الوقار والسكينة والجلال مرتدياً عباءته، مستعِدّاً لمجلس القضاء أحسن الاستعداد، وكان واسع الصدر أثناء سماع الدعاوى لا يتضجّر من مُلاحاة الخصوم ولا من كثرة كلامهم، وإذا أكثر أحد الخصوم كلامه أو قال كلاماً لا ينبغي، نبَّهَهُ بطريقة جميلة هادئة، وذلك بأن يُعرِّض له بالسكوت تعريضاً لا أمر فيه.
أذكر مرّةً أن أحد الخصوم أطال الكلام فقال الشيخ بصوت خافت:
يموت الفتى من عثرةٍ بلسانِهِ ... وليس يموت المرء من عثرة الرجْلِ
لكن الرجُل سمع ما قاله الشيخ وفهم مراده، فقلّل الكلام وهذّبه.

وكان يقول إذا أطال أحد الخصمين الكلام أو فصَّل تفصيلاً لا داعي له: رُبَّ كلمةٍ قالت لصاحبها دعني!

منحه الله جلالةً من غير تكلُّف، وهيبةً من غير تصنُّع، مما أضفى على مجلسه الشرعي الهدوء والسكينة والوقار.

كان -رحمه الله- نزيهاً عفيفاً بعيداً كل البُعد عن مواطن الشبهات، حريصاً على إعطاء الناس حقوقهم بالسوية، الكبير والصغير، والغني والفقير، والقريب والبعيد، كلهم عنده في مجلس القضاء سواء.

أما علاقته بالناس خارج مجلس القضاء فكانت علاقة احترام وتقدير، ولم يكن يركن إلى الدنيا ولا إلى أهلها، بل إنه كان مبتوتَ الصِلَة برجال الأعمال ونحوهم ممن تتطلّع نفوس الناس إلى العلاقة بهم، يفعل ذلك صيانة لنفسه ودينه، وحفظاً لعِرْضه وكرامته.

عملتُ بجانبه عاماً كاملاً -كما أسلفتُ- ثم عُيّنتُ بعدها قاضياً فغادرتُ محكمة الرياض ثماني سنين، ثم عُدْتُ إليها وإذا بشيخنا قد صار رئيساً لها، ومن قَدَر الله لي وفضله عليَّ أن جعل مجلس القضاء الخاص بي مجاوراً لمكتبه -رحمه الله- فكان ذلك سبباً للقرب منه من جديد ومشاركته في كثير من الأعمال طيلةَ بقائه في رئاسة محكمة الرياض.

ولما تمت ترقيته إلى درجة "رئيس محكمة تمييز" اختار الانتقال للعمل في مجلس القضاء الأعلى، فَخَلَفْتُهُ في رئاسة محكمة الرياض فهيّأ الله أن أكون عضواً في مجلس القضاء بهيئته العامة فشاركتُهُ مع بقية أعضاء المجلس تسع سنين، وكان له في جلساتنا من المكانة والقوة والحضور والمهابة نصيبٌ وافر، مع تحرٍّ للعدل فيما يصدر من المجلس من القرارات الخاصة بأصحاب الفضيلة القضاة، وحرصٍ على إعطاء كل ذي حق حقه.

رحمك الله يا شيخنا أبا سليمان وأحسن إليك، وجزاك عني وعن المسلمين خير الجزاء وأفضله وأوفاه) ا.هـ.

ذلك هو الشيخ الجليل محمد بن سليمان البدر الذي نشأ يتيماً رحمه الله وغفر له, ولا أنسى تلك اللحظة بعد أن انتهيت من بعض أعمال يوم النحر ورجعت إلى المخيم وفي ممر متسع منه إذا بالشيخين صالح اللحيدان ومحمد البدر وبعض الرجال قد فرغوا من وجبة الفطور فسلمت على الشيخ صالح, ورأيت الشيخ محمد رحمه الله يمشي متجهاً إلي قائلاً: أهلاً بالشيخ وسبقني بالتهنئة بالعيد ودعا الله لي بالقبول مع ابتسامة مشرقة تنسيك النصب والتعب, فقبلتُ ما بين عينيه داعياً له بالقبول والمغفرة, فرحمه الله وجمعنا به ووالدينا في الفردوس.

في يوم الاثنين الموافق 13 / 6 / 1432هـ ذهبت لزيارة الشيخ عثمان بن حمد الحقيل؛ إذ رأيته في إحدى المناسبات, فأنست برؤيته, وفرحت بحديثه, وسررت بلقائه, وسعدت بمعرفته, هدوء في مشيه, هدوء في كلامه, سمت ووقار, كرم وتواضع, ولطف وتودد, فأحببت زيارته فكانت زيارة مؤنسة, سألته عن بداية عمله مع الشيخ العلامة محمد بن إبراهيم فقال: في السبعينيات من القرن الماضي, تحدث عن الكتب حديث الصداقة والمحبة والألفة, أخبرني أنه أهدى مكتبته الأولى لمكتبة الملك فهد الوطنية, قال: وقد حوت على أكثر من سبعة عشر ألف كتاب, قال: منَّ الله عليَّ فكونت مكتبة أخرى ففكرت أن تكون في مكان خارج المملكة؛ إذ الكتب في بعض الأماكن شحيحة فأشار علي بعضهم أن اجعلها في جامعة الخرطوم فكان كذلك, يقول: فتكفلت بحملها في البحر, وتغليفها, حتى توضع هناك وقد بلغ عدد مجلداتها عشرة آلاف ومائتي مجلداً , ولما كنت مغرماً بالكتب كونت مكتبة ثالثة! وإني لمحتار هل أجعلها في المجمعة؟ أو في غيرها من الجامعات؟ فقد أشار عليّ بعضهم أن تكون في جامعة أبها.

لما سئل ما أحب الكتب إلى نفسك؟ فقال: أما الآن فكتاب الله.

مضى بنا الوقت حتى سمعنا أذان العشاء فقال: أريد أن تروا المكتبة, فلما دخلناها قال: خذوا ما شئتم من الكتب فما أخذتموه أحب إلي -والله- مما بقي- فقلت: لعل المكتبة تكون في وقت آخر حتى يتسنى اختيار الكتب غفر الله لكم, وكانت مرة أخرى وثالثة لكن لم أجرؤ على أخذ كتاب واحد.

حدثني أنه قابل مع الشيخ محمد الخيال وغيره كتاب كشاف القناع, وأخبر أنه كان في المطبوع تلك الفترة أغلاط, وسقط كثير, وقد تمت المقابلة في الستينات الهجرية .

ولد رحمه الله عام 1343هـ درس ودرَّس, وتعلَّم وعلَّم, وأدار باقتدار ما تولاه من مهام, كان يوصي بالجد والاجتهاد, وكم ردد علي قول الصفدي:
الجَدُّ في الجِدِّ والحرمانُ في الكسلِ ... فانْصَبْ تُصِبْ عن قريبٍ غايةَ الأملِ

حضر مجالس ودروس كبار العلماء في بلدته المجمعة كأمثال الشيخ العلامة عبدالله العنقري والشيخ العلامة عبد الله بن حميد رحمهم الله, كان خطيباً وإماماً للجامع القديم لسنوات, وقد حدثني أنه لما زار الملك سعود رحمه الله المجمعة عام 1378هـ خطبتُ بهم كالعادة وكان الموضوع عن العلاقة بين الراعي والرعية, فلما نزلت توجهتُ للملك سعود رحمه الله واستأذنته أن يصلي بالناس فتقدم وأمَّ بنا.

وفقه الله للصبر والاجتهاد والعمل الدؤوب حتى أصبح مديراً لرئاسة القضاة بتوجيه من سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم, ولما أنشئت وزارة العدل أصبح مديراً عاماً على مكتب وزير العدل.
توفي ليلة الأحد 28 / 2 / 1441هـ وقد قارب الهنيدة, فرحمه الله وغفر له.

منَّ الله علينا حين سكن والدي حفظه الله ورفع منزلته في حوطة سدير أن يكون إمام المسجد الشيخ كبير-رحمه الله- من دولة باكستان وقد كان من أوائل من جاء لتدريس القرآن فحفظ على يديه من أبناء سدير عدد كثير , وتعلم خلق لا يحصيهم إلا الله, وكان من أبرز تلاميذه قوة في الحفظ والإتقان الأستاذ الفاضل اللغوي الأديب أبو أيمن أحمد بن عبدالرحمن بن ناصر الليفان, فكان رحمه الله ممتازاً بكثرة قراءة القرآن, وكان متأثراً في تلاوته وأدائه بالشيخ الجليل علي الحذيفي والشيخ محمد أيوب إماما الحرم النبوي, أتم حفظ القرآن وهو دون العشرين, ولد رحمه الله في سنة 1394هـ, وتخرج في الابتدائية عام 1406هـ, ودرس بالمعهد العلمي بحوطة سدير المرحلتين المتوسطة والثانوية وتخرج فيه 1413هـ, والتحق بكلية اللغة العربية بجامعة الإمام وتخرج فيها عام 1420هـ, تم تعيينه معلماً في ثانوية بلدة "الحفنة", وفي صباح يوم السابع عشر من شهر ذي القعدة عام 1421هـ بعد أن صلى الفجر بالمسجد الذي هو إمامه اتجه إلى عمله , وفي الطريق انقلبت به سيارته فتوفي رحمه الله رافعاً سبابته إلى السماء, فكان خبر موته مؤثراً على كل من عرفه, توافد المصلون ليصلوا عليه بعد صلاة مغرب ذلك اليوم, ثم تبعوه إلى المقبرة وهم كثرة كاثرة, توفي ولم يكن تزوج رحمه الله غير أنه خلف الذكر الحسن, توفي لم يبلغ الثامنة والعشرين من عمره, عرفته في أكثر من موقف عرفته حين كان يبكر لصلاة الجمعة فيصلي في جامع الحي الذي نسكن فيه, فإذا دخلت الجامع فإذا هو يقرأ حفظاً على الذي بجانبه ويتناوبان في القراءة حتى يدخل الخطيب.

عرفته حين كنت أدرس بالجامعة, فكان يأتي للزيارة في النُزل الذي نستأجره مع مجموعة من الأصحاب, وكان دائماً يحب المساجلة والمسابقة الشعرية فيأتي ببيت من الشعر وآخر حرف منه يكون هو مطلع البيت الشعري الذي آتي به فكنا نمضي إلى ثلاثين بيتاً لا غالب ولا مغلوب حتى لزَّني مرة بحرف الزاي! فلم يحضرني وقتها إلا قول الشافعي في طلب العلم فأبدلت حرفاً بحرف حتى لا أغلب في المنافسة, فجعلت مكان الذال حرف الزاي
فقلت : 
زكاء وحرص واجتهاد وبلغة *** وصحبة أستاذ وطول زمان
فضرب على ركبتي فرحاً مسروراً قائلاً: يا زين هذا التعديل.

كان شاعراً قوي الألفاظ والمعاني كتب في الثناء والرثاء والنصح والتوجيه وفي التأمل ونظم في القرآن قصائد كثيرة منها قصيدة في فضله وآداب تلاوته, والقراءات السبع, وأوجه الإعجاز فيه, وبما يبتدئ كل جزء من أجزائه, ومواضع السجود, حتى رموز الوقف.

شارك في مناسبات كثيرة, ورثى علماءنا الذين ماتوا على رأسهم سماحة شيخنا عبدالعزيز ابن باز رحمه الله, قال في إحدى قصائده:
فقبض أرواح أهل العلم معضلة *** تقطِّع الأرض والأكباد لأواءُ
فهم نجوم وهم شمس إذا أفلت *** لا يستقرُّ لها في الأرض جَهْلاءُ
وهم على الأرض أوتادُ ثَبَات وهم *** لطلسم الضنِّ والتشكيل قُرَّاءُ

وقال في رثاء شيخنا ابن باز رحمه الله:
المجد بات طريحاً يوم ينعاكا *** والترب فاح عبيراً يوم وراكا
ما كنت أحسب أن البدر من فرق *** يغور في الترب محزوناً لفرقاكا

ومن لطيف ما قال رحمه الله:
لا خير في المرء إن لم يكسه الأدب *** ولا ثراء لمن لم تُثْرِه الكتب
المال يفنى وعلم المرء يحفظه *** قلب الزمان وإلا سادة نجب
إلى آخر ما قال رحمه الله..

سائلاً الرحمن أن يكشف الوباء, ويستجيب الدعاء, وأن يلطف بالمسلمين, ويحفظ ديارهم من كل سوء ومكروه, وأن يرحم موتانا جميعاً.

وكتب
د. محمد بن فهد بن عبدالعزيز الفريح
المعهد العالي للقضاء
يوم العيد 1 / 10 / 1441هـ