الأربعاء، 26 يوليو 2017

دامت الصداقة وعاش الصديق!

دامت الصداقة وعاش الصديق!

عنوان هذا المقال جملة جميلة في رسالة وصلتْ إلي من أحد أصحاب المعالي النبلاء حين قرأ مقالاً كتبته عن (مواقف لطيفة وقعت لأصحابي) ولا أحصي عدد من اتصل أو أرسل بعد نشر ذلك المقال، وقد طلب كثير منهم أن أكتب مرة أخرى حول هذا الموضوع! وممن أظهر رغبته، ووجه إليَّ أمره: شيخ كبير جاوز عمره الثمانين! فهل ما زال محتفظاً بأصدقائه إلى هذا السن؟!

قد عرفتُ رجلاً بلغ عمره التسعين، زار صاحبه في المستشفى فلما رآه بكى وبكى صاحبه ولم يستطيعا الكلام في الدقائق الأولى من البكاء، ولا لوم إذ صحبتهما قد زادت عن سبعين سنة!!
وَجَدت نفسك من نفسي بمنزلةٍ *** هي المُصافاةُ بين الماءِ والرَّاحِ

وشكيب أرسلان كتب عن إخاء أربعين سنة مع رشيد رضا، وكتب أيضاً عن أحمد شوقي في صداقة أربعين سنة!

ولاشك أن الذكريات التي يتذكرها الصديق لهي ذكريات أعزُّ من كنز مدفون لبخيل شحيح يقلبه في هدآت الليل!
جسمي معي غير أن الروحَ عندكُم *** فالجسم في غربةٍ والروحُ في وطنِ
فليعجب الناسُ مني أن لي بدناً *** لا روح فيه ولي روحٌ بلا بدنِ
وربما هاج الضمير، وأقبلت الروح تزُفّ تريد صديقها، ولعل النفس تبوح بما فيها، بل ربما بكتْ اشتياقاً لأصحابها..
الجسمُ في بلد والرّوحُ في بلدِ *** يا وَحْشةَ الرُّوح بل يا غُرْبة الجَسَدِ

 فكم كان لفراق صديق وقع لم يكن لأحد من بقية الناس! ولربما فاقت منزلته في قلوب كثيرين منزلة الأخوة الطينية!
أعرفتَ في ساعات عمرك موقفاً *** بعث الشجون كساعة التوديع؟

وشاعر الحكمة زهير يقول:
ثلاثٌ يعِزُّ الصبرُ عند حُلُولها *** ويَذْهلُ عنها عقلُ كلِّ لبيبِ
خُروجُ اضطرارٍ من بلادٍ تحبُّها *** وفُرْقَةُ خِلَّانٍ وفَقْدُ حبيبِ

وما كنت أعلم أن الصديق ربما تختلط روحه مع روح صديقه حتى كأنهما روح واحدة افترقا في جسدين!

ولا أنسى أن شاباً اتصل ولم أردّ على اتصاله! وأرسل رسالة كتب فيها: هل تتلطف بشيء من وقتك فإني مكروب!!
فأجبته بأن يتفضل متى شاء .. فحدثني والحزن قد عمَّ أرجاء قلبه عن صديقين له، هم شركاء في شركة، وقال بلفظه: نحن أكثر من إخوة، وقد جعلنا قاعدة في شركتنا، أنه إذا اتفق اثنان رضخ الثالث للرأي، قال بحرف حزين: لقد اتفقا على أمر أراه حراماً وهما يزعمان حله بفتوى بعض المتطفلين على العلم! وألزموني بالقاعدة الماضية! أريد حلاً فلا استطيع فراقهم، ولا ترك الشركة!
يا عاذلي ذرني وقلبي والهوى *** أأعَرتني قلباً لحملِ شُجوني
لم يرحموني حين حان فِراقُهم *** ما ضرَّهُمْ لَوْ أنهم رَحِموني

آهٍ من صداقة تورث ألماً، وهل يجد الصديق صديقاً كما وصفه أبو تمام:
من لي بإِنسانٍ إِذا أغضْبتُهُ *** وَجهِلْتُ كان الحلمُ ردَّ جوابهِ
وإِذا صبوتُ إِلى المدامِ شربْتُ من *** أخلاقِه وسَكِرْتُ من آدابهِ
وتراه يُصغي للحديثِ بسمعهِ *** وبقلبهِ ولعله أَدْرى بهِ

وأعز الأصدقاء وجوداً هو ما ذكره الأول بقوله:
إن أخا الصدق الذي يسعى معك *** ومن يضر نفسه لينفعك
ومن إذا صرف زمان صدعك *** شتت شمل نفسه ليجمعك

وكتب رجل إلى خليله: لو علمتُ أن يومي أهنأ من يومك لاخترت أن أوثرك به!
وما أحلى ما كتبه محمود شاكر عن الرافعي مجسداً معنى الوفاء بعبارات فخمة رفيعة بعد موته في مجلة الرسالة.
وأحلى من الكتابة عن الصديق: مَنْ يسلي صاحبه، ويواسي رفيقه، ويتوجع لصديقه حال حياته قبل فقده.
إن جئت مكسوراً فضمك واجب *** أنا في هواك أخالف الإعرابا

وأي سرور ستدخله على صديقك حين تبوح له بمكانته في نفسك!
حدِّث حبيبك عن هواك فإنه *** لا خير في شغف المحب الصامت

وأحذر أن تكون سبباً في إماتة الصداقة، وقَبْضِ روحها ولا تقول لصديقك:
مات الهوى فتعال نقسم إرثه *** بيني وبينك والدموع شهود
خذ أنت مني ذكرياتك كلها *** وأنا سأحمل خيبتي وأعود

بل قل لأصدقائك كما قال بشار بن برد:
أَبكي الذينَ أذَاقُوني مَوَدَّتَهم * ** حتى إذا أيقظوني في الهوى رقدوا 
واستنهضوني فلما قُمْتُ منتصباً *** بثقْل ما حَمَّلوني وُدَّهم قَعدُوا
  لأخرجن من الدنيا وحبهمُ *** بين الجَوانح لم يشعر به أحد
ألْقَيْتُ بيني وبين الحُزن معرفةً *** لا تنقضي أبداً أو ينقضي الأبد

وما يشوه وجه الصداقة كمثل قبول كلام الواشين قبحهم الله وأبعد نُزُلهم.
ومن يطع الواشين لا يتركوا له *** صديقاً وإن كان الحبيب المقرَّبا

وما أجمل ذلك الصديق حين قال له أحد الواشين: إن صاحبك يذكرك بسوء!! فأجابه: عرضي عرضه، وكلامه فيَّ، خير من نصحك لي، وفارقني يا بريد الشيطان خيراً لك.
فَدَتْكَ نُفُوسُ الحاسِدينَ فإنّها *** مُعَذَّبَةٌ في حَضْرَةٍ ومَغِيبِ
وَفي تَعَبٍ مَن يحسُدُ الشمسَ نورَها *** وَيَجْهَدُ أنْ يأتي لهَا بضَرِيبِ

والصديق الصادق من يقبل على صديقه مهما كان منه خلا معاصي الله، فوجه الصداقة جميل مليح لا تعلوه قترة ولو كثر العاذلون!
أسَاءَ فَزَادَتْهُ الإسَاءَةُ حُظْوَةً  *** حَبِيبٌ عَلى مَا كَانَ مِنهُ ، حَبِيبُ
يعدُّ عليَّ العاذلونَ ذنوبهُ *** وَمِنْ أينَ للوَجْهِ المَلِيحِ ذُنُوبُ
فيا أيها الجافي ، ونسألهُ الرضا *** وَيَا أَيّهَا الجَاني ، وَنَحْنُ نَتُوبُ !
لَحَى اللهُ مَن يَرْعَاكَ في القُرْبِ وَحده *** وَمَنْ لا يَحُوطُ الغَيبَ حِينَ تَغيبُ

وربما صدق القائل:
تحمَّلْ عظيمَ الذنبِ ممن تحُّبهُ *** وإِن كنتَ مظلوماً فقلْ أنا ظالمُ
فإِنكَ إِن لم تحملِ الذنبَ في الهوى *** يفارْقكَ من تهوى وأنفُكَ راغمُ

وكم قام الحساد وقعدوا ليفرقوا بين صديقين عاقلين فرجعوا بخفي حنين..

فرحم الله صديقاً رعى حمى صديقه، ولم يقبل قولاً ضالاً فيه، وأظهر محبته له..

 كتب رجل إلى صديق له: أما بعد: فإن كان إخوان الثقة كثيراً، فأنت أولهم، وإن كانوا قليلاً فأنت أوثقهم، وإن كانوا واحداً فأنت هو!

قال الإمام أحمد - رحمه الله -: (إذا مات أصدقاء الرجل ذل).

وكم من رجل محتاج إلى صديق؟!

حتى قال أبو العتاهية:
وإني لمحتاج إلى ظل صاحبٍ *** يروق ويصفو إن كدرت عليه

ولما أنشد هذا البيت أمام المأمون قال لمن أنشده: (خذ الخلافة وأعطني هذه الصاحب!!)

والصداقة لا تنسخ بموت الصديق بل هي مستمرة  بعد موته إذا كانت صداقة صافية وذلك بالبر به، والدعاء له، وقد روي عن علي - رضي الله عنه - أنه قال: (قليل للصديق الوقوف على قبره).

وأعرف رجلاً فاضلاً مات صاحب له منذ سنين وهو ما زال إلى وقتنا يدعو له ويتصدق عنه.
بل وأعرف مجموعة أصدقاء لم تطب نفوسهم إلا بالاشتراك في إقامة وقف، وجعلوا ثوابه لصديقهم الذي حل الموت بساحته!

كتب أحدهم إلى صاحب له: (ما أحوجك إلى أخ كريم الأخوة، كامل المروءة، وإذا غبت خلفك، وإذا حضرت كنفك، وإذا نكرْت عرفك، وإذا جفوت لاطفك، وإذا بررت كافأك، وإذا لقي صديقك استزاده لك، وإن لقي عدوك كف عنك غرب العادية، وإذا رأيته ابتهجت، وإذا باثثته استرحت).

ومن أراد أن يَثْبتَ له الصديق فليكن له عليه فضل! وليحتمل له، قال الأحنف - رحمه الله -: (من حق الصديق أن يحتمل له ظلم الغضب، وظلم الدالة، وظلم الهفوة).

والصديق له المنزلة العظيمة، وهو من خير مكاسب الحياة، وقد تحسر عليه أولئك حتى قالوا: {فما لنا من شافعين ولا صديق حميم}.

وبعض الأصدقاء حلو الصداقة يقدِّمك على نفسه، ويؤثرك على حقوقه، متغافل عن إساءتك، معظِّم لإحسانك، سن ضاحك، بودِّه لو حمل الهم عنك، وحلَّ فيه الألم ولا نزل بك! 

فكيف يُفَرَّطُ في مثله!

وقد مات بعض أصدقائي فما زالتْ ذكرياتهم تمر على الروح كألطف هواء بارد عليل مع اشتياق عارم إليهم جمعني الله بهم في الفردوس .. وربما تذكرتُ قول القائل:
إلى الله أَشكُو لَوْعَةً عِنْدَ ذِكرِهِمْ ** سقتني بكأسِ الثكلِ والفظعاتِ
فياربَّ زدني منْ يقيني بصيرةَ ** وزِدْ حُبَّهم يا ربِّ ! في حَسَناتي

وقد حدثني الشيخ الزاهد - الصديق- سعد الحصين - رحمه الله رحمة تدخله جنة الفردوس بلا حساب ولا عذاب - أن أخاه الشيخ إبراهيم الحصين - رحمه الله - الذي كان يعمل مع شيخنا الإمام عبدالعزيز بن باز - رحمهما الله - أخذ إجازة لمدة عشرة أيام وذهب ليقضيها في المدينة النبوية فاتصل عليه الشيخ ابن باز قائلاً: (وينك يا شيخ إبراهيم متى تأتي؟ فقال: الله يغفر لك يا والدي لم يمض من الإجازة إلا خمسة أيام وبقي خمسة، فقال ابن باز - رحمه الله -: والله كأنها خمس سنين!!)
يا راحلاً وجميل الصبر يتبعه *** هل من سبيل إلى لقياك يتفق
ما أنصفتك جفوني وهي دامعة *** ولا وفى لك قلبي وهو يحترق

رحمك الله أبا محمد!

وَقَفَ الْهَوَى بِي حَيْثُ أَنْت *** فَلَيْسَ لِي مُتَأَخَّرٌ عَنْهُ وَلاَ مُتَقَدَّمُ

ألا فلتدم الصداقة وليعش الصديق

كتبه/
د.  محمد بن فهد بن عبد العزيز الفريح
عضو هيئة التدريس بالمعهد العالي للقضاء







الاثنين، 26 يونيو 2017

أتت بهم الذاكرة في يوم عيد (2)



أتت بهم الذاكرة في يوم عيد (2)

مرَّ عام كامل على المقالة الأولى "أتت بهم الذاكرة في يوم عيد" وقد كنتُ كتبتُ في نهايتها:( بقي رجال تستمطر الذاكرة مواقفهم لعل الله يمنّ بفسحة من الوقت؛ لأقيدها في عيد آخر بإذن الله), وهاهو العيد قد أتى فأسأل الله أن يقبل منا جميعاً صالح أعمالنا ويتجاوز عن التفريط.

وقد جملتْ تلك المقالة بأن كانت أولى الذكريات مع شيخنا الإمام عبدالعزيز بن باز رحمه الله, ولا أنس موقفاً عجيباً كنتُ له من الشاهدين إذ كانت لسماحته رحمه الله محاضرة في جامع الملك خالد بالرياض فذهبتُ باكراً إليها لأكون قريباً من الشيخ, وفعلاً كنت من أقرب الناس إلى مكان إلقائه للمحاضرة, ودخل الشيخ المسجد من الجهة الغربية الشمالية وحوله من حوله من الناس, فلما وضع قدمه في المكان الذي خلف الإمام أحسَّ بوجود سجادة على سجاد الجامع, فقال: ما هذا؟! فقالوا: سجادة, فقال: سبحان الله المسجد ما فيه سجاد, ثم أمر برفعها؛ لئلا يتميز أحد عن أحد في المسجد فرُفعتْ, ثم بدأت المحاضرة بعد صلاة المغرب ثم تكاثرت الأسئلة على المقدِّم للمحاضرة وكان مما قرأه سؤال عن السحر وما يتعلق به, فتكلم الشيخ بما فتح الله عليه من التحذير منه ثم كيفية علاجه بالقرآن وبدأ بقراءة بعض الآيات التي تتعلق بالسحر تعليماً للناس, فما راعنا إلا صارخ من آخر المسجد: (خلاص يا شيخ أبطلع أبطلع خلاص...) والشيخ مستمر على أمره لم تتحرك منه شعرة فيما أرى, والناس قاموا وماجوا وتلفتوا, وعيني على الشيخ أنظر ما يفعل فلم يزل كما هو, ثم قال للمقدم نعم- أي أعطنا السؤال الذي يليه-, انتهت المحاضرة ... ثم سألتُ عن خبر  الصارخ؟ فأخبرني أحد الإخوة أن رجلا ً من دولة أفريقية كان به مسٌّ فيما يبدو, فلما جاءت آيات السحر نطق الذي فيه بالكلام الماضي, وأن بعض الإخوة أخرجوه من المسجد فما هي إلا مدة يسيرة حتى قال: ما الذي جرى لي؟ لم يكن مدركاً للموقف, فأُخبر الخبر, واللطيف في الموقف أن هذا الأخ دخل المسجد ليصلي العشاء بعد انتهاء المحاضرة, وكان الذي بجواره في الصف قد رأى حاله قبل ذلك فكان يرقب صلاته بعين وهذا الرجل بعين تحسباً لأي موقف, فلما كانوا في التشهد الأخير عطس الرجل الأفريقي فاضطرب الرجل الذي بجواره حتى كاد أن يقطع صلاته.
ولا شك أن المسَّ وهو تلبس الجني بالإنسي محل إجماع عند أهل السنة قال الإمام ابن تيمية رحمه الله:(دخول الجني في بدن الإنسان ثابت باتفاق أئمة أهل السنة والجماعة) .

أتذكر أني كنت واقفاً عند باب الجامع الكبير بعنيزة إذ خرج منه الشيخ العلامة محمد بن عثيمين رحمه الله بعد صلاة العصر, ووافاه عند عتبات الجامع صبي فأعطاه الشيخ ريالاً قد مرتْ الأيدي عليه كثيراً, فقال الصبي: أريد ريالاً جديداً, فما كان من الشيخ إلا أن بحث فيما بين يديه من مال فوجد ريالاً جديداً, فأعطاه إياه وقال له: هذا ريال جديد على طلبك!

بل مرة رأيت الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله في المسجد الحرام يمشي فمشيت بجواره استمع لأسئلة الناس فإذا رجل عظيم البنية وقف أمام الشيخ  وقرَّب شفته إلى فيِّ الشيخ يريد أن يقبله والشيخ يرجع رأسه إلى الخلف ابتعاداً من فعل هذا الرجل ولم يدفعه ولم يعنفه حتى أدرك الرجل نفور الشيخ من فعله فكفَّ, وأتى أحدهم وكان معه طيباً فطيَّب يد الشيخ ولم يلق الشيخ بالاً لذلك لكثرة الناس حوله فقال ذلك الرجل: يا عمِّ الشيخ هذا يجوز؟ أي استعمال هذا النوع من الطيب,  فقال: الشيخ أين صاحب الطيب؟ أعطني إياه, فدفعه إليه فقام الشيخ وطيب لحيته ثم قال للرجل وهو يبتسم: وش رأيك الآن يجوز؟! فضحك الرجل من لطف الشيخ وحسن تعليمه.

وأذكر مرة دخل شاب على شيخنا العلامة عبدالله الغديان رحمه الله في مكتبه بدار الإفتاء فسأله الشيخ عن اسمه فقال فلان بن فلان فقال الشيخ وقد بدأ عليه التغير, ما اسم جدك؟ فقال: فلان, فقام الشيخ من مكتبه وذهب إلى مكان الشاب وضمه وبكى وصار يردد: أبوك صاحب لي وصديق خاص الله يرحمه , وكان الشاب قد توفي والده قديماً ولا يعلم عن هذه العلاقة الحميمية بين والده وبين الشيخ عبدالله رحمهما الله.

لما كنتُ في المرحلة الثانوية لبس أحد أصحابي الدبلة!! فتعجبتُ منه, وقلت له: إن كبار مشايخنا يمنعون منها فقال: لا, اسأل لي أنت أحد المشايخ! فاتصلتُ بالشيخ صالح بن غصون رحمه الله, وكنت أسمع عن ذكره الحسن إذ كان من خيرة القضاة الذين تولوا القضاء في سدير, فرد الشيخ على سلامي بتحية مثلها ثم سألته عن لبس الدبلة, فأخبرني أنها لا تجوز ... فأخبرت صاحبنا بكلام الشيخ.

وقد مكث الشيخ صالح بن غصون رحمه الله في قضاء سدير أربع سنين, وقد قال في لقاء معه في إذاعة القرآن لما جاء ذكر تعيينه في حوطة سدير للقضاء قال: (وأهل سدير جزاهم الله خيراً كانوا عوناً لي على الخير) رحم الله الشيخ صالح بن غصون, وقد نسيتُ هل أخذ صاحبي بكلام الشيخ أم لا؟

وممن أتت بهم الذاكرة هذا اليوم المبارك صاحب الفضيلة الشيخ الصابر عبدالرحمن بن عثمان بن جاسر رحمه الله "شيخ الدلم" زرته في مرض موته وكان على فراشه فجلس ورحب ودعا كأن لم يكن به مرض, وسألني عن شيخنا فهد بن جاسر الزكري وطلب أن أبلغ سلامه  للشيخ, وقد فعلتُ, كان الشيخ عبدالرحمن صابراً محتسباً سألته عسى ما يؤلمكم المرض كثيراً, فكان جوابه: (ابن آدم محل للأقدار يصبر على مرِّها, ويستعين بربه عليها, والحمد لله ما رأينا من ربنا إلا خيراً), ولد الشيخ عام1354هـ وتخرج في كلية الشريعة عام 82-1383هـ تولى إدارة المعهد العلمي بالدلم أكثر من عشرين سنة, كان عضواً في التوعية الإسلامية بالحج, وخطيباً للجامع الكبير بالدلم, كان يعقد الدروس للطلاب في فنون مختلفة, اشتد به المرض, فأدخل المستشفى فكان بين ذكر ودعاء وحمد لله, يغمى عليه من شدة المرض, وربما ردد وهو في شدة المرض(وما بكم من نعمة فمن الله) توفي يوم الاثنين 8/8/1423هـ رحمه الله رحمة واسعة.

وكان الشيخ عبدالرحمن يقول الشعر, ومن شعره قوله:

حبُّ العذارى في الرجال سجيةٌ *** وسجيتي في الحب حب بلادي
وطنيَّتي طبع نشأتُ بحبِّها *** كرم الأصول وموطن الأجداد
لا تعجبوا مما أقول فإنني *** أهب البلاد محبتي وودادي...

وقال رحمه الله:

أقمتُ بأمريكا من الوقت برهة *** على هامش الآلام والهم والفكر
أكابد آلامي وأجمع ما أرى *** فأُدهش أحياناً وأعجب من أمري
أقارن أوضاعاً تدور بعالم *** بما كان محسوباً على أمة الخير
رأيت من الأخلاق والصدق والوفا *** وما كان مفروضاً على أمة الطهر
تمنيت أن الدين كان قوامها *** وأن عفاف النفس من واقع السَّير...

في أول لقاء لي مع الشيخ العلامة صالح الأطرم رحمه الله سألني عن اسمي فقلت: محمد الفريح, فقال : نَعَم! كلفظ المُنْكِر!! وهو يقيناً قد سمع قولي! ففطنتُ لأمر, فأعدتُه عليه مرة ثانية قائلاً: محمد بن فهد الفريح, فقال: ونِعم إيه, مالك أب! من البر بالوالد أن تذكره إذا ذكرت اسمك, فشكرتُ للشيخ رحمه الله هذه الفائدة, وكسبتُ دعاءه لي جمعنا الله به في دار كرامته.

لا زلت أذكر شيخاً وقوراً قد خَضَبَ لحيته بالحناء يعظ الناس ويحدثهم بعد الصلوات وأحياناً بعد الجمع وهو الشيخ سليمان بن إبراهيم البريه رحمه الله وأخباره كثيرة, ومن لطيفها أنه دخل الدراسة الليلية التي بجوار منزله وفي بداية السنة سلمتْ إليه إدارةُ المدرسة الكتبَ ولما جاء في الغد لم يُحْضِر معه إلا كتاباً واحداً هو القرآن, فلما قال له المدرس: يا أبا عبدالعزيز أين بقية الكتب التي تسلَّمتها البارحة لتتابع معنا فيها, فقال: لم أدخل إلا لأتعلم معكم القرآن, مع أنه كان يعرف قراءة القرآن, ولكنه أراد الاستزادة من تعلم القرآن رحمه الله.

ومما يذكر هنا من خبره أنه هو وجماعة من أهل العطار بسدير يجتمعون في ديوانية عبدالعزيز بن سليمان البريه قبل أربعين سنة ليستمعوا برنامج نور على الدرب وفتاوى العلماء فيه من المذياع يوضع في وسط المجلس, فينصتون له كأن على رؤوسهم الطير, وهذه عادة لهم بعد صلاة المغرب في كل يوم.

في إحدى زياراتي لمنطقة جازان قبل سنوات ذهبتُ لزيارة عالم من علمائها, وشيخاً محدِّثاً من شيوخها, هو فضيلة الشيخ أحمد النجمي رحمه الله أدخلنا منزله, وأضفى علينا مع كرم يده كرماً من ألفاظه, ولطفاً في محياه, وقال للحاضرين: وقد قدَّم القهوة لن أقول لكم "اقدعوا" كما عندكم في نجد! فإن "اقدعوا" عندنا اخرجوا, انصرفوا! ونحن لا نريدكم تنصرفون!

 رأيتُ مجلس الشيخ مقصوداً من الكبير والصغير وطالب العلم والعامي رأيته يفتي الناس في مجلسه وأحياناً يأتي السائل بسؤال مكتوب فيملي الجواب وأحد طلبته يكتبه, ثم يدفعه للسائل, وقد حدثني الشيخ ناصر قحل حفظه الله وقد بلغ الثمانين من عمره أن الشيخ عبدالله القرعاوي  رحمه الله قال عن الشيخ أحمد النجمي: (الشيخ أحمد يتفجر علماً في الحديث), ولد الشيخ أحمد عام 1346هـ, اشتغل بالتدريس, والتأليف, والفتوى, والنصح والإرشاد , طبعت دار الإفتاء بعض كتبه, مرة زرته حين أجرى عملية لعينه فإذا بالشيخ عبدالله بن عقيل رحمه الله يأتي للسلام على الشيخ, توفي الشيخ أحمد بعد معاناة ودخوله في غيبوبة لمدة أشهر في شهر رجب عام 1429هـ رحمه الله, وغفر له.

أختم هذه الذكريات بذكرى عن مدير مدرستي الابتدائية بالعطار الشيخ الكريم إبراهيم بن عثمان القديري رحمه الله المشهور "بمطوع العطار" كان خطيباً لجامع العطار أكثر من خمسين سنة , لما ثقل الشيخ عثمان العمر عن إمامة جامع العطار ذهب للشيخ صالح بن غصون رحمه الله قاضي حوطة سدير يعتذر من الاستمرار في إمامة الجامع , فقال له الشيخ: من ترشِّح خلفاً عنك؟ فقال: ما خبرت أحداً إلا إبراهيم القديري , ولكنه غير حاضر؛ لكونه يعمل بالرياض, قال الشيخ ابن غصون : الأمر سهل نكتب إليه ويأتي, فجاء خطاب الشيخ يطلب من الشيخ إبراهيم القدوم إلى سدير, فقدم الشيخ إبراهيم فوجَّهه الشيخ ابن غصون أن يحل محل شيخه عثمان فتولى الإمامة والخطابة خلفاً لشيخه من عام 1369هـ حتى عام 1419هـ تقريباً , وتم تكليفه رسمياً من قِبل الشيخ صالح بن غصون رحمه الله في 29/12/1371هـ, كما كلَّفه بالقيام بمهمة تعليم الأولاد بالمسجد في 22/3/1372هـ, ثم لما افتتحت مدرسة العطار في 27/2/1373هـ عمل مدرساً فيها, ثم عُين مديراً لها واستمر في إدارتها عشرات السنين, كان كريماً, لطيفاً, حسن العشرة, بابه مفتوح, خلَّف الذكر الحسن, وكان من بِرِّ الشيخ إبراهيم بشيخه عثمان العمر رحمهما الله : أنه يضحي عنه كل سنة, وقد توفي الشيخ  إبراهيم بن عثمان القديري الشمري رحمه الله سنة 1421هـ .

وهنا وقف القلم ولعل الله أن يمن علينا جميعاً بإدراك عيد الفطر في العام القادم ونحن في صحة وسلامة وأمن وعافية وسعة رزق, فيتحرك القلم مرة ثالثة ليذكر شيئاً من ذكريات رجال قدَّموا الخير والنفع لأمتهم بإذن الله.


وكتبه / د.  محمد بن فهد بن عبد العزيز الفريح
عضو هيئة التدريس بالمعهد العالي للقضاء
1 / 10 / 1438 هـ



السبت، 22 أبريل 2017

مــزحُ الــحـــمــقــى !!

مزحُ الحمقى!

لا أدري إلى أي قاع سينتهي ببعض شبابنا هداهم الله وأصلح بالهم جرَّاء فعل "مقالبٍ"! وإنتاج مشاهد, والتنافس عليها ! وتصويرها ثم نشرها !!

فتجد أحمقاً يخيف أخاه الصغير بما قد يذهب عقله, ثم تبصر أحمقاً آخر يُفْزِع صديقه بما يسمى "الدمية المسكونة" !, وترى ثالثاً يمثل دور المجرم الذي يتبع غلاماً حدثاً؛ ليختبر المجتمع في غيرتهم في دفعه عن ذلك الأحمق الصغير الذي تواطأ معه... في قائمة من الحمقى تطول ثم ينشرون أفعالهم على سمع العالم وبصره ! ويشجعهم جهلة يطلبون المزيد من الفعل الشنيع ! وأولئك يطلبون منهم إظهار الإعجاب بها !!

يا أصحاب تلك المقاطع أفيقوا ! 

فإن الأمر جِد خطير, فقد أخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: 
« من أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنه حتى وإن كان أخاه لأبيه وأمه ».

قال النووي رحمه الله:
( فيه تأكيد حرمة المسلم والنهي الشديد عن ترويعه وتخويفه والتعرض له بما قد يؤذيه وقوله صلى الله عليه و سلم:" وإن كان أخاه لأبيه وأمه" مبالغة في إيضاح عموم النهي في كل أحد سواء من يتهم فيه ومن لا يتهم, وسواء كان هذا هزلاً ولعباً أم لا ؛ لأن ترويع المسلم حرام بكل حال ).

وأخرج الإمام أحمد وأبو داود عن بعض الصحابة رضي الله عنهم أنهم كانوا يسيرون مع النبي صلى الله عليه وسلم فنام رجل منهم فانطلق بعضهم إلى حبل معه فأخذه ففزع, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
« لا يحل لمسلم أن يروِّع مسلماً ».

الله أكبر , نعم لا يحل لك أيها المسلم أن تروِّع أخاك, فضلاً أن تجاهر بتلك المعصية التي ارتكبتها من ترويعه, وتنشرها بين الناس.

 أخرج الإمام أحمد وأبو داود والترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
 « لا يأخذن أحدكم متاع أخيه لاعباً ولا جاداً ومن أخذ عصا أخيه فليردها »,  

قال أبو عبيد رحمه الله في غريب الحديث:
يعني أن يأخذ شيئاً لا يريد سرقتَه ، إنَّما يريدُ إدخالَ الغيظِ عليه ، فهو لاعبٌ في مذهب السرقة ، جادٌ في إدخال الأذى والروع عليه ).

وقال صاحب فيض القدير:
( ترويع المسلم حرام شديد التحريم ).

وقال الإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله:
( لا يجوز للمسلم أن يُفْزِع أو يخيف أخاه المسلم, وإن كان مازحا كإشارته بالسلاح أو بحديدة أو أخذ متاعه لما فيه من إدخال الأذى والضرر عليه, والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ).

وقال الشوكاني رحمه الله:
لا يجوز ترويع المسلم ولو بما صورته صورة المزح ).

وقد عدَّ الهيتمي رحمه الله في كتابه الزواجر, والإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله في كتابه الكبائر : 
ترويعَ المسلم من كبائر الذنوب.

فإياكم يا شبابنا وهذا الأفعال المشينة, والأعمال المحرمة, وارتقوا بأفعالكم وهممكم إلى العز, ونافسوا على المجد, وأقبلوا على النافع لكم في الدين والدنيا, فالمجتمع الإسلامي بحاجة إليكم, والمسلمون يتطلعون إلى عطائكم المثمر, والأمة على مثلكم تقوم, فلا تضيعوا أوقاتكم حرسكم الله في غير المفيد, ولا يمضي شبابكم في غير أمر حميد , فما أكثر  النادم على ضياع عمره, فلا يدفعنكم البحث عن الشهرة, أو اللهث لإضحاك الناس أن ترتكبوا ما يضر بهم , أو يضركم من ذنوب تصل إلى الكبائر وأنتم لا تشعرون.

 فانتبه أيها الشاب المبارك  أن " تفت فؤادك الأيام فتّا ", فيضيع عمرك سبهللا, و" من ضيّع الحزم لم يظفر بحاجته ".

حفظ الله على شبابنا أوقاتهم, وجعلهم نصراً لأمتهم, وعزاً لأوطانهم.


كتبه
 د.محمد بن فهد بن عبد العزيز الفريح


25/7/1438