الجمعة، 20 يوليو 2018

كلام العلماء في حكم الانحناء


كلام العلماء في حكم الانحناء

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
فقد ظن كثير من الناس أن من آداب اللقاء، وحسن الاستقبال، واحترام الكبير الانحناء له توقيراً وإجلالاً، وهذا الظن ظن الجاهل، وهو خطأ ظاهر .
فقد أخرج الإمام أحمد والترمذي وغيرهما عن أنس بن مالك -t- قال: قال رجل : يا رسول الله الرجل منا يلقى أخاه أو صديقه أينحني له؟ قال: «لا»، قال: أفيلتزمه ويقبله؟ قال: «لا»، قال: أفيأخذ بيده ويصافحه؟ قال: «نعم».
قال ابن حجر رحمه الله في التلخيص الحبير: (- أخرجه - أحمد والترمذي وابن ماجه والبيهقي من حديث أنس وحسنه الترمذي واستنكره أحمد).
وأخرج البخاري في صحيحه عن أنس رضي الله عنه قال :"ما كان في الدنيا شخص أحب إليهم رؤية من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا إليه، لما يعلمون من كراهيته لذلك".
كان الانحناء عند التحية في شريعة من قبلنا قال البغوي رحمه الله في تفسيره: (سجود إخوة يوسف له في قوله عز وجل {وخروا له سجدا} لم يكن فيه وضع الوجه على الأرض، إنما كان الانحناء، فلما جاء الإسلام أبطل ذلك بالسلام).
وقال: (وكانت تحية الناس يومئذ السجود، ولم يُرِدْ بالسجود وضعَ الجباه على الأرض، وإنما هو الانحناء والتواضع .
وقيل: وضعوا الجباه على الأرض وكان ذلك على طريق التحية والتعظيم، لا على طريق العبادة. وكان ذلك جائزاً في الأمم السالفة فنسخ في هذه الشريعة).
وقال شيخ المفسرين ابن جرير رحمه الله: ( وأصل "السجود" الانحناء لمن سجد له معظما بذلك. فكل منحن لشيء تعظيما له فهو "ساجد".
ومنه قول الشاعر:
بجمع تضل البلق في حجراته....ترى الأكم منه سجدا للحوافر)

وقال القرطبي رحمه الله: (وقد نسخ الله ذلك كله في شرعنا، وجعل الكلام بدلا عن الانحناء.
وأجمع المفسرون أن ذلك السجود على أي وجه كان فإنما كان تحية لا عبادة، قال قتادة: هذه كانت تحية الملوك عندهم، وأعطى الله هذه الأمة السلام تحية أهل الجنة.
قلت - القائل القرطبي -: هذا الانحناء والتكفي الذي نسخ عنا قد صار عادة بالديار المصرية، وعند العجم، وكذلك قيام بعضهم إلى بعض، حتى أن أحدهم إذا لم يقم له وجد في نفسه كأنه لا يؤبه به، وأنه لا قدر له، وكذلك إذا التقوا انحنى بعضهم لبعض، عادة مستمرة، ووراثة مستقرة لا سيما عند التقاء الأمراء والرؤساء.
نكبوا عن السنن، وأعرضوا عن السنن) وقال: (وإذا سلم فإنه لا ينحني...؛ لأن الانحناء على معنى التواضع لا ينبغي إلا لله).
وقال ابن العربي رحمه الله في أحكام القرآن: ({ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم}.
قال العلماء: كان هذا سجود تحية لا سجود عبادة، وهكذا كان سلامهم بالتكبير وهو الانحناء، وقد نسخ الله في شرعنا ذلك، وجعل الكلام بدلا عن الانحناء والقيام).
وقد نص عدد من العلماء من مذاهب شتى على حرمة الانحناء لمخلوق.
جاء في تحفة الحبيب من كتب الشافعية: (والحاصل أن الانحناء لمخلوق كما يفعل عند ملاقاة العظماء حرام).
قال ابن القيم: (إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى الرجل أن ينحني للرجل إذا لقيه كما يفعل كثير من المنتسبين إلى العلم ممن لا علم له بالسنة بل يبالغون إلى أقصى حد الانحناء مبالغة في خلاف السنة جهلا، حتى يصير أحدهم بصورة الراكع لأخيه، ثم يرفع رأسه من الركوع كما يفعل إخوانهم من السجود بين يدي شيوخهم الأحياء والأموات، فهؤلاء أخذوا من الصلاة سجودها، وأولئك ركوعها، وطائفة ثالثة قيامها، يقوم عليهم الناس وهم قعود كما يقومون في الصلاة، فتقاسمت الفرق الثلاث أجزاء الصلاة، والمقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن انحناء الرجل لأخيه سداً لذريعة الشرك، كما نهى عن السجود لغير الله).
قال الإمام ابن تيمية رحمه الله: ( وأما الانحناء عند التحية: فينهى عنه كما في الترمذي عن النبي -r- أنهم سألوه عن الرجل يلقى أخاه ينحني له؟ قال: «لا»؛ ولأن الركوع والسجود لا يجوز فعله إلا لله عز وجل؛ وإن كان هذا على وجه التحية في غير شريعتنا كما في قصة يوسف: ({ وخروا له سجدا وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل} وفي شريعتنا لا يصلح السجود إلا لله بل قد تقدم نهيه عن القيام كما يفعله الأعاجم بعضها لبعض فكيف بالركوع والسجود؟ وكذلك ما هو ركوع ناقص يدخل في النهي عنه).
بل قال رحمه الله: (مجرد الانحناء بالظهر لغير الله عز وجل منهي عنه. ففي المسند وغيره، أن معاذ بن جبل رضي الله عنه لما رجع من الشام سجد للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: «ما هذا يا معاذ»؟ فقال : يا رسول الله رأيتهم في الشام يسجدون لأساقفتهم وبطارقتهم ويذكرون ذلك عن أنبيائهم فقال: «كذبوا يا معاذ لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها، يا معاذ أرأيت إن مررت بقبري أكنت ساجدا»؟ قال: لا، قال: «لا تفعل هذا». أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم... وبالجملة فالقيام والقعود والركوع والسجود حق للواحد المعبود: خالق السموات والأرض وما كان حقا خالصا لله لم يكن لغيره فيه نصيب).
وقال: (وأما تقبيل الأرض ووضع الرأس قدام الشيخ والملك فلا يجوز بل الانحناء كالركوع لا يجوز، ومن فعله قربة وتدينا بُيِّن له فإن تاب وإلا قتل).
قال ابن القيم رحمه الله: (انحناء المتلاقين عند السلام أحدهما لصاحبه من السجود المحرم وفيه نهي صريح عن النبي صلى الله عليه وسلم).
وقال ابن عبد القوي رحمه الله في منظومته:
ويكره منك الانحناء مُسلِّما *** وتقبيل رأس المرء حل وفي اليد
قال الإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله: (ومعنى «التحيات»: جميع التعظيمات لله ملكاً واستحقاقاً، مثل الانحناء والركوع والسجود، والبقاء والدوام، وجميع ما يعظم به رب العالمين فهو لله).
وقال العلامة محمد بن إبراهيم رحمه الله: (الانحناء عند السلام حرام إذا قصد به التحية. وأما إن قصد به العبادة فكفر).
جاء في فتاوى اللجنة الدائمة برئاسة الإمام عبد العزيز بن باز رحمه الله ما نصه: ( هل من الإسلام إذا سلم أحد على أخيه أن ينحني له تعظيما، أو يخلع نعليه وينحني له تعظيما؛ لأن هذا كله من عادة آبائنا، ولذلك أرجو منكم بيانا شافيا من فضلكم؟
ج: لا يجوز الانحناء عند السلام ولا خلع النعلين له.
وفي سؤال آخر: انخرطنا في نادي من نوادي الكاراتيه بأمريكا، وقال المدرب: أنه يجب أن تنحني عندما ينحني لك هو، فرفضنا وشرحنا له ذلك في ديننا فوافق ولكن قال: على أن نحني فقط الرأس، لأنه هو يبدؤك بالانحناء فلا بد أن ترد تحيته فما رأي فضيلتكم في ذلك؟
ج: لا يجوز الانحناء تحية للمسلم ولا للكافر لا بالجزء الأعلى من البدن ولا بالرأس؛ لأن الانحناء تحية عبادة، والعبادة لا تكون إلا لله وحده.
وفي سؤال آخر: هل يحل انحناء الصبي لمن هو أكبر منه سنا في التسليم وفي إن لقيه احتراما وتعظيما له؟
ج : أجمع أهل العلم على أن الانحناء لا يجوز لأحد من المخلوقين؛ لأنه لا يكون إلا لله تعالى؛ تعظيما له سبحانه، وقد روي عن النبي -r- النهي عنه لغير الله).
وقال العلامة محمد بن عثيمين رحمه الله: (ولما سئل صلى الله عليه وسلم عن الرجل يلقى أخاه فيسلم عليه أينحني له فقال: «لا» فمنع صلى الله عليه وسلم من الانحناء عند التسليم؛ لأن ذلك خضوع لا ينبغي إلا لله رب العالمين فهو سبحانه وحده الذي يركع له ويسجد، وكان السجود عند التحية جائزا في بعض الشرائع السابقة، ولكن هذه الشريعة الكاملة شريعة محمد صلى الله عليه وسلم منعت منه وحرمته إلا لله تعالى وحده) ( خلافا لما يفعله بعض الجهال إذا سلم عليك انحنى لك، فيجب على كل مؤمن بالله أن ينكره؛ لأنه عظمك على حساب دينه).
وقال رحمه الله: (وأما الانحناء عند الملاقاة أو المعانقة والالتزام فإن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن ذلك أننحني؟ قال: «لا». قال السائل: أيلتزمه ويعانقه؟ قال: «لا». فإذا لاقاه فإنه لا يلتزم أي لا يضمه إليه ولا يعانقه ولا ينحني له، والانحناء أشد وأعظم؛ لأن فيه نوعا من الخضوع لغير الله عز وجل بمثل ما يفعل لله في الركوع فهو منهي عنه، ولكنه يصافحه وهذا كاف، إلا إذا كان هناك سبب، فإن المعانقة أو التقبيل لا بأس به، كأن كان قادما من سفر أو نحو ذلك، فإن قال قائل كيف يكون قول الرسول صلى الله عليه وسلم لا ينحني له مع قول الله تعالى في إخوة يوسف لما دخلوا عليه وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا فالجواب عن هذا أنه في شريعة سابقة وشريعتنا الإسلامية قد نسخته ومنعت منه فلا يجوز لأحد أن يسجد لأحد وإن لم يرد بذلك العبادة أو ينحني فإن الانحناء منع منه الرسول صلى الله عليه وسلم إذا قابلك أحد يجهل هذا الأمر وانحنى لك فانصحه وأرشده قل له هذا ممنوع لا تنحن ولا تخضع إلا لله وحده، وتقبيل اليد لا بأس به إذا كان الرجل أهلا لذلك).
وجاء في الموسوعة الفقهية أن الانحناء: (قد يكون محرما، كالانحناء تعظيما لإنسان أو حيوان أو جماد. وهذا من الضلالات والجهالات.
وقد نص الفقهاء على أن الانحناء عند الالتقاء بالعظماء ككبار القوم والسلاطين تعظيما لهم - حرام باتفاق العلماء).
وقد جاء في فتاوى الشيخ عبدالله بن عقيل رحمه الله مانصه: (انحناء الإنسان لغيره برأسه أو برقبته لا يجوز في حالة السلام، ولا في غيره؛ لأن ذلك من الخضوع، والخضوع لغير اللَّه منهي عنه، وقد سئل الإمام النووي عن ذلك. ونص السؤال:
الانحناء الذي يفعله الناس بعضهم لبعض -كما هو معتاد لكثير من الناس- ما حكمه؟ وهل جاء فيه شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه؟
فأجاب -رحمه الله- بما نصه:
هو مكروه كراهة شديدة، فقد ثبت عن أنس رضي الله عنه قال: قال رجل: يا رسول الله، الرجل منا يلقى أخاه، أو صديقه، أينحني له؟ قال: «لا» ، قال: أفيلتزمه ويقبله؟ قال: «لا»، قال: أفيأخذ بيده ويصافحه؟ قال: «نعم». رواه الترمذي وقال حديث حسن.
فهذا الحديث صريح في النهي عنه، ولم يأت له معارض، فلا مصير إلى مخالفته، ولا يُغتر بكثرة من يخالفه، ممن ينتسب إلى فقه، أو غيره من خصال الفضل).
والخلاصة: أن الانحناء لا يجوز مطلقاً إذا كان مقصوداً، فلو انحنى لأمه أو أبيه أو للحاكم قاصداً الانحناء تعظيماً لهم كان فعله محرماً وجرماً.
وإذا كان الانحناء أشبه بالركوع أو السجود فهو حرام، وإن كان المنحني غير قاصد للانحناء؛ لأن هذا لا يجوز إلا لله كما مضى في كلام أهل العلم.
أما إذا انحنى طويل القامة لمعانقة قصير القامة مثلاً، فهذا وإن كان فيه ميل بالظهر للرجل الآخر فهو غير مقصود قطعاً، ولا يقال: إن هذا قد انحنى لهذا, بل انحنى عليه، ويدخل فيه لو انحنى الولد على والده الجالس مقبلاً رأسه ويده، قال العلامة صالح الفوزان غفر الله له: (الانحناء لا يجوز إلا لله سبحانه وتعالى لكن تقبيل يد الأم اليد لا الرِّجل يقبِّل يد والدته أو يد والده، أو يد العالِم، أو يد ولي الأمر، فهذا لا بأس به، لكن من غير انحناء. فإذا انخفض يسيراً لأجل التقبيل فلا بأس بذلك. أما أنه ينحني وينزل وهو واقف ليقبل رجل الأم فهذا لا ينبغي، وهذا فيه تكلف أيضاً. نعم، إذا كان لا يحتاج إلى انخفاض، وإنما هو جالس عند قدمها، وقبَّله من باب الإكرام لها فلا بأس بذلك).
وقال الشيخ سليمان بن سحمان رحمه الله: (ذكر ابن القيم، رحمه الله، في الإغاثة، على قوله تعالى: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً} [سورة البقرة آية: 58] ما نصه: قال السدي: هو باب من أبواب بيت المقدس، وكذلك قال ابن عباس، قال: والسجود بمعنى الركوع، وأصل السجود الانحناء لمن تعظمه؛ فكل منحن لشيء تعظيماً له فهو ساجد له، قاله ابن جرير وغيره؛ قلت: وعلى هذا، فانحناء المتلاقيين عند سلام أحدهما لصاحبه، من السجود المحرم، وفيه نهى صريح عن النبي صلى الله عليه وسلم. انتهى ما ذكره ابن القيم، رحمه الله تعالى.
وقد أشكل هذا على كثير من الناس، ممن لم يكن له معرفة بمدارك الأحكام، ومعاني الألفاظ، فزعموا: أن ما يفعله المسلمون الآن من المعانقة، من هذا القبيل، وأنه هو هذا الانحناء المحرم الذي ذكره ابن القيم؛ وليس الأمر كما زعموا، ولا على ما فهموا، لوجوه:
أحدها: أن المسلمين لا يقصدون بهذه المعانقة، الانحناء لمن يسلمون عليه تعظيماً له بذلك، وإنما يقصدون المعانقة المشروعة، وحملهم على ما هو الحق، وما يقصدونه ويتعارفونه، أحسن وأوفق من حملهم على الأمر المحرم، الذي لا يقصدونه ولا يعرفونه، إذ حملهم على هذا من العنت والتحكم.
الوجه الثاني: أن هذا من باب التحية والملاطفة والمحبة والشفقة، بعد الالتقاء من البعد والسفر وغير ذلك، لا من باب التعظيم.
الوجه الثالث: أن الانحناء المحرم الذي عناه ابن القيم، وتكلم فيه أهل العلم، هو: الانحناء للمعظَّم من الناس تعظيماً له بذلك، من غير مصافحة ولا معانقة، كما يفعله أهل الأمصار اليوم للمعظم عندهم، فيقومون له وينحنون له ويعظمونه بذلك، وهذا لا يفعلونه غالبا إلا للرؤساء.
وأعظم من ذلك وأبلغ في التحريم: ما قد يفعله بعضهم غالباً مع الانحناء أو بدونه، من رفع يده والإشارة بها إلى محل السجود منه من أنفه وجبهته، وهذا فيه إشارة إلى السجود له، كما يفعله أهل الأمصار اليوم، من الانحناء والإشارة إلى الأنف والجبهة، وهو الانحناء المذموم المحرم، الذي عناه ابن القيم، رحمه الله، لا ما يفعله المسلمون الآن من المصافحة والمعانقة; ولا يقول هذا إلا جاهل متنطع متشدد، سمع لفظ الانحناء وأنه محرم، وأنه من السجود والتعظيم للمخلوق، فقاس عليه سلام أهل الإسلام، أو ظن أنه هو الذي عناه ابن القيم، وجعل إكبابه عليه للمعانقة انحناء له وتعظيماً، وهذا باطل كما تقدم بيانه).
فائدة: ذكر بعض أهل العلم أن تحية المجُوس: الانْحِنَاء. والله أعلم.


كتبه د. محمد بن فهد بن عبدالعزيز الفريح
عضو هيئة التدريس بالمعهد العالي للقضاء

الخميس، 12 يوليو 2018