الأربعاء، 26 يوليو 2017

دامت الصداقة وعاش الصديق!

دامت الصداقة وعاش الصديق!

عنوان هذا المقال جملة جميلة في رسالة وصلتْ إلي من أحد أصحاب المعالي النبلاء حين قرأ مقالاً كتبته عن (مواقف لطيفة وقعت لأصحابي) ولا أحصي عدد من اتصل أو أرسل بعد نشر ذلك المقال، وقد طلب كثير منهم أن أكتب مرة أخرى حول هذا الموضوع! وممن أظهر رغبته، ووجه إليَّ أمره: شيخ كبير جاوز عمره الثمانين! فهل ما زال محتفظاً بأصدقائه إلى هذا السن؟!

قد عرفتُ رجلاً بلغ عمره التسعين، زار صاحبه في المستشفى فلما رآه بكى وبكى صاحبه ولم يستطيعا الكلام في الدقائق الأولى من البكاء، ولا لوم إذ صحبتهما قد زادت عن سبعين سنة!!
وَجَدت نفسك من نفسي بمنزلةٍ *** هي المُصافاةُ بين الماءِ والرَّاحِ

وشكيب أرسلان كتب عن إخاء أربعين سنة مع رشيد رضا، وكتب أيضاً عن أحمد شوقي في صداقة أربعين سنة!

ولاشك أن الذكريات التي يتذكرها الصديق لهي ذكريات أعزُّ من كنز مدفون لبخيل شحيح يقلبه في هدآت الليل!
جسمي معي غير أن الروحَ عندكُم *** فالجسم في غربةٍ والروحُ في وطنِ
فليعجب الناسُ مني أن لي بدناً *** لا روح فيه ولي روحٌ بلا بدنِ
وربما هاج الضمير، وأقبلت الروح تزُفّ تريد صديقها، ولعل النفس تبوح بما فيها، بل ربما بكتْ اشتياقاً لأصحابها..
الجسمُ في بلد والرّوحُ في بلدِ *** يا وَحْشةَ الرُّوح بل يا غُرْبة الجَسَدِ

 فكم كان لفراق صديق وقع لم يكن لأحد من بقية الناس! ولربما فاقت منزلته في قلوب كثيرين منزلة الأخوة الطينية!
أعرفتَ في ساعات عمرك موقفاً *** بعث الشجون كساعة التوديع؟

وشاعر الحكمة زهير يقول:
ثلاثٌ يعِزُّ الصبرُ عند حُلُولها *** ويَذْهلُ عنها عقلُ كلِّ لبيبِ
خُروجُ اضطرارٍ من بلادٍ تحبُّها *** وفُرْقَةُ خِلَّانٍ وفَقْدُ حبيبِ

وما كنت أعلم أن الصديق ربما تختلط روحه مع روح صديقه حتى كأنهما روح واحدة افترقا في جسدين!

ولا أنسى أن شاباً اتصل ولم أردّ على اتصاله! وأرسل رسالة كتب فيها: هل تتلطف بشيء من وقتك فإني مكروب!!
فأجبته بأن يتفضل متى شاء .. فحدثني والحزن قد عمَّ أرجاء قلبه عن صديقين له، هم شركاء في شركة، وقال بلفظه: نحن أكثر من إخوة، وقد جعلنا قاعدة في شركتنا، أنه إذا اتفق اثنان رضخ الثالث للرأي، قال بحرف حزين: لقد اتفقا على أمر أراه حراماً وهما يزعمان حله بفتوى بعض المتطفلين على العلم! وألزموني بالقاعدة الماضية! أريد حلاً فلا استطيع فراقهم، ولا ترك الشركة!
يا عاذلي ذرني وقلبي والهوى *** أأعَرتني قلباً لحملِ شُجوني
لم يرحموني حين حان فِراقُهم *** ما ضرَّهُمْ لَوْ أنهم رَحِموني

آهٍ من صداقة تورث ألماً، وهل يجد الصديق صديقاً كما وصفه أبو تمام:
من لي بإِنسانٍ إِذا أغضْبتُهُ *** وَجهِلْتُ كان الحلمُ ردَّ جوابهِ
وإِذا صبوتُ إِلى المدامِ شربْتُ من *** أخلاقِه وسَكِرْتُ من آدابهِ
وتراه يُصغي للحديثِ بسمعهِ *** وبقلبهِ ولعله أَدْرى بهِ

وأعز الأصدقاء وجوداً هو ما ذكره الأول بقوله:
إن أخا الصدق الذي يسعى معك *** ومن يضر نفسه لينفعك
ومن إذا صرف زمان صدعك *** شتت شمل نفسه ليجمعك

وكتب رجل إلى خليله: لو علمتُ أن يومي أهنأ من يومك لاخترت أن أوثرك به!
وما أحلى ما كتبه محمود شاكر عن الرافعي مجسداً معنى الوفاء بعبارات فخمة رفيعة بعد موته في مجلة الرسالة.
وأحلى من الكتابة عن الصديق: مَنْ يسلي صاحبه، ويواسي رفيقه، ويتوجع لصديقه حال حياته قبل فقده.
إن جئت مكسوراً فضمك واجب *** أنا في هواك أخالف الإعرابا

وأي سرور ستدخله على صديقك حين تبوح له بمكانته في نفسك!
حدِّث حبيبك عن هواك فإنه *** لا خير في شغف المحب الصامت

وأحذر أن تكون سبباً في إماتة الصداقة، وقَبْضِ روحها ولا تقول لصديقك:
مات الهوى فتعال نقسم إرثه *** بيني وبينك والدموع شهود
خذ أنت مني ذكرياتك كلها *** وأنا سأحمل خيبتي وأعود

بل قل لأصدقائك كما قال بشار بن برد:
أَبكي الذينَ أذَاقُوني مَوَدَّتَهم * ** حتى إذا أيقظوني في الهوى رقدوا 
واستنهضوني فلما قُمْتُ منتصباً *** بثقْل ما حَمَّلوني وُدَّهم قَعدُوا
  لأخرجن من الدنيا وحبهمُ *** بين الجَوانح لم يشعر به أحد
ألْقَيْتُ بيني وبين الحُزن معرفةً *** لا تنقضي أبداً أو ينقضي الأبد

وما يشوه وجه الصداقة كمثل قبول كلام الواشين قبحهم الله وأبعد نُزُلهم.
ومن يطع الواشين لا يتركوا له *** صديقاً وإن كان الحبيب المقرَّبا

وما أجمل ذلك الصديق حين قال له أحد الواشين: إن صاحبك يذكرك بسوء!! فأجابه: عرضي عرضه، وكلامه فيَّ، خير من نصحك لي، وفارقني يا بريد الشيطان خيراً لك.
فَدَتْكَ نُفُوسُ الحاسِدينَ فإنّها *** مُعَذَّبَةٌ في حَضْرَةٍ ومَغِيبِ
وَفي تَعَبٍ مَن يحسُدُ الشمسَ نورَها *** وَيَجْهَدُ أنْ يأتي لهَا بضَرِيبِ

والصديق الصادق من يقبل على صديقه مهما كان منه خلا معاصي الله، فوجه الصداقة جميل مليح لا تعلوه قترة ولو كثر العاذلون!
أسَاءَ فَزَادَتْهُ الإسَاءَةُ حُظْوَةً  *** حَبِيبٌ عَلى مَا كَانَ مِنهُ ، حَبِيبُ
يعدُّ عليَّ العاذلونَ ذنوبهُ *** وَمِنْ أينَ للوَجْهِ المَلِيحِ ذُنُوبُ
فيا أيها الجافي ، ونسألهُ الرضا *** وَيَا أَيّهَا الجَاني ، وَنَحْنُ نَتُوبُ !
لَحَى اللهُ مَن يَرْعَاكَ في القُرْبِ وَحده *** وَمَنْ لا يَحُوطُ الغَيبَ حِينَ تَغيبُ

وربما صدق القائل:
تحمَّلْ عظيمَ الذنبِ ممن تحُّبهُ *** وإِن كنتَ مظلوماً فقلْ أنا ظالمُ
فإِنكَ إِن لم تحملِ الذنبَ في الهوى *** يفارْقكَ من تهوى وأنفُكَ راغمُ

وكم قام الحساد وقعدوا ليفرقوا بين صديقين عاقلين فرجعوا بخفي حنين..

فرحم الله صديقاً رعى حمى صديقه، ولم يقبل قولاً ضالاً فيه، وأظهر محبته له..

 كتب رجل إلى صديق له: أما بعد: فإن كان إخوان الثقة كثيراً، فأنت أولهم، وإن كانوا قليلاً فأنت أوثقهم، وإن كانوا واحداً فأنت هو!

قال الإمام أحمد - رحمه الله -: (إذا مات أصدقاء الرجل ذل).

وكم من رجل محتاج إلى صديق؟!

حتى قال أبو العتاهية:
وإني لمحتاج إلى ظل صاحبٍ *** يروق ويصفو إن كدرت عليه

ولما أنشد هذا البيت أمام المأمون قال لمن أنشده: (خذ الخلافة وأعطني هذه الصاحب!!)

والصداقة لا تنسخ بموت الصديق بل هي مستمرة  بعد موته إذا كانت صداقة صافية وذلك بالبر به، والدعاء له، وقد روي عن علي - رضي الله عنه - أنه قال: (قليل للصديق الوقوف على قبره).

وأعرف رجلاً فاضلاً مات صاحب له منذ سنين وهو ما زال إلى وقتنا يدعو له ويتصدق عنه.
بل وأعرف مجموعة أصدقاء لم تطب نفوسهم إلا بالاشتراك في إقامة وقف، وجعلوا ثوابه لصديقهم الذي حل الموت بساحته!

كتب أحدهم إلى صاحب له: (ما أحوجك إلى أخ كريم الأخوة، كامل المروءة، وإذا غبت خلفك، وإذا حضرت كنفك، وإذا نكرْت عرفك، وإذا جفوت لاطفك، وإذا بررت كافأك، وإذا لقي صديقك استزاده لك، وإن لقي عدوك كف عنك غرب العادية، وإذا رأيته ابتهجت، وإذا باثثته استرحت).

ومن أراد أن يَثْبتَ له الصديق فليكن له عليه فضل! وليحتمل له، قال الأحنف - رحمه الله -: (من حق الصديق أن يحتمل له ظلم الغضب، وظلم الدالة، وظلم الهفوة).

والصديق له المنزلة العظيمة، وهو من خير مكاسب الحياة، وقد تحسر عليه أولئك حتى قالوا: {فما لنا من شافعين ولا صديق حميم}.

وبعض الأصدقاء حلو الصداقة يقدِّمك على نفسه، ويؤثرك على حقوقه، متغافل عن إساءتك، معظِّم لإحسانك، سن ضاحك، بودِّه لو حمل الهم عنك، وحلَّ فيه الألم ولا نزل بك! 

فكيف يُفَرَّطُ في مثله!

وقد مات بعض أصدقائي فما زالتْ ذكرياتهم تمر على الروح كألطف هواء بارد عليل مع اشتياق عارم إليهم جمعني الله بهم في الفردوس .. وربما تذكرتُ قول القائل:
إلى الله أَشكُو لَوْعَةً عِنْدَ ذِكرِهِمْ ** سقتني بكأسِ الثكلِ والفظعاتِ
فياربَّ زدني منْ يقيني بصيرةَ ** وزِدْ حُبَّهم يا ربِّ ! في حَسَناتي

وقد حدثني الشيخ الزاهد - الصديق- سعد الحصين - رحمه الله رحمة تدخله جنة الفردوس بلا حساب ولا عذاب - أن أخاه الشيخ إبراهيم الحصين - رحمه الله - الذي كان يعمل مع شيخنا الإمام عبدالعزيز بن باز - رحمهما الله - أخذ إجازة لمدة عشرة أيام وذهب ليقضيها في المدينة النبوية فاتصل عليه الشيخ ابن باز قائلاً: (وينك يا شيخ إبراهيم متى تأتي؟ فقال: الله يغفر لك يا والدي لم يمض من الإجازة إلا خمسة أيام وبقي خمسة، فقال ابن باز - رحمه الله -: والله كأنها خمس سنين!!)
يا راحلاً وجميل الصبر يتبعه *** هل من سبيل إلى لقياك يتفق
ما أنصفتك جفوني وهي دامعة *** ولا وفى لك قلبي وهو يحترق

رحمك الله أبا محمد!

وَقَفَ الْهَوَى بِي حَيْثُ أَنْت *** فَلَيْسَ لِي مُتَأَخَّرٌ عَنْهُ وَلاَ مُتَقَدَّمُ

ألا فلتدم الصداقة وليعش الصديق

كتبه/
د.  محمد بن فهد بن عبد العزيز الفريح
عضو هيئة التدريس بالمعهد العالي للقضاء